تحريم سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

تحريم سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم
المبحث الأول: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم بنص الكتاب العزيز
إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله ـ جل وعلا ـ من ذلك:
1- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم رضى مطلقاً، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وقد بين تعالى في آخر هذه الآية أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك حيث قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1
ولذا لما كان هؤلاء الأخيار بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة أمر الله من جاء بعدهم أن يستغفروا لهم ويدعوا الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، ومن هنا علم أن الاستغفار وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه، ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2.
__________
1ـ سورة التوبة آية/100.
2ـ سورة محمد آية/19.
__________________________________

وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 1، ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم، الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: “أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم”2.
2- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} 3.
هذه الآية تضمنت التهديد والوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله والعذاب المهين لمن آذاه ـ جل وعلا ـ بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك4 وإيذاء رسوله “يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب وشتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى” ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله5 وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم فالآية فيها إشارة قوية ظاهرة إلى أنه يحرم سبهم رضي الله عنهم.
3- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 6.
وهذه الآية فيها التحذير من إيذاء المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه، ولم يفعلوه، والبهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين
__________
1ـ سورة آل عمران آية/159.
2ـ انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/572-575، وحديث عائشة في صحيح مسلم 4/2317.
3ـ سورة الأحزاب آية/57.
4ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/514.
5ـ انظر المسند للإمام أحمد 4/87.
6ـ سورة الأحزاب آية/58.
__________________________________
والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم1.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى، وأن من نال منهم بذلك فقد آذى خيار المؤمنين بما لم يكتسبوا وأن من اتخذ شتمهم والنيل منهم ديناً له فإن الوعيد المذكور في الآية يصيبه.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: “ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله ـ عز وجل ـ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين”4أ.هـ.
وكما هو معلوم “أن سب آحاد المؤمنين موجب للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم”.
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/514-515.
2ـ سورة البقرة آية/104.
3ـ سورة الكهف آية/107.
4ـ تفسير القرآن العظيم 5/515.
__________________________________

4- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1 الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم.
قال أبو عبد الله القرطبي: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ـ ثم قال ـ : “لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين، ثم ذكر طائفة من الآيات التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح، ثم قال عقبها: “وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم”2.أ.هـ
فهذه الآية اشتملت على تحريم سب الصحابة لأن سبهم، إنما يصدر ممن امتلأ قلبه غيظاً عليهم، لا محل فيه للإيمان3 نعوذ بالله من الخذلان.
__________
1ـ سورة الفتح آية/29.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 16/296، وانظر قول مالك في شرح السنة للبغوي 1/229.
3ـ انظر ما قاله مالك فيمن يسب الصحابة في تفسير ابن كثير 5/365.
__________________________________

5- قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} سورة الحجرات آية/12.
وهذه الآية الكريمة تضمنت النهي لجميع العباد عن أن يقول بعضهم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه، ذلك أن يقال له في وجهه والغيبة قد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟، قال صلى الله عليه وسلم: ” ذكرك أخاك بما يكره “، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟، قال صلى الله عليه وسلم: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته” 1.
وبتفسير الشارع للغيبة في هذا الحديث يتبين وجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة وذلك أن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله ـ جل وعلا ـ ، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أي الربا أربى عند الله”؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “أربى الربا عند الله استحلال عرض امريء مسلم”، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 2.
فإذا كان الكلام في عرض أي مسلم كان من أربى الربا عند الله عز وجل فما الشأن بالاستطالة والسب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم في مقدمة عباد الله المتقين وعباده الصالحين، ولا يشك مسلم في أن النيل منهم بالقول السيء من سب وغيره أنه انتهاك لحرمة أمر الله عز وجل باحترام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
1ـ سنن أبي داود 2/567، سنن الترمذي 3/220-221، وقال: حسن صحيح.
2ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 5/515، وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/658.
__________________________________

6- قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} 1.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة يتضح بما قاله السلف في تفسير هذه الآية، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل عن قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، قال: طعان، “لمزة”، قال: مغتاب2.
وقال مجاهد: الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس3.
وقال قتادة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال: يأكل لحوم الناس ويطعن عليهم”4..
..، فهذه التفاسير لهذه الآية عن هؤلاء الأئمة من السلف تدل على تحريم اغتياب عموم المؤمنين وهي تنطبق على من أطلقوا ألسنتهم بالوقوع في الصحابة من الرافضة وغيرهم فهم الهمازون لهم بالقول بحيث يزدرونهم وينتقصونهم بالسب والشتم وينسبون إليهم ما لم يقولوه وما لم يفعلوه، ولا شك أن العذاب الذي توعد الله به في هذه الآية سيصيب كل من اتخذ الطعن فيهم ديدنه إن لم يتب ويقلع عن ذلك ويجعل لسانه رطباً بذكرهم بالجميل والترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما جاء الأمر به لكل من جاء بعدهم من أهل الإيمان، والحاصل مما تقدم ذكره أن تحريم سب الصحابة جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم وأن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله تعالى حرم سبهم وازدراءهم وعيبهم بما جرى بينهم وأن يحذر طريقة الروافض الذين لم يراعوا لهم حرمة ولم يقدروهم حق قدرهم وأن من سلك طريقهم ألقى نفسه في المهالك التي لا نجاة منها إلا بالرجوع إلى طريقة أهل الحق من أهل السنة والجماعة والتوبة مما أسلفه من جناية في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1ـ سورة الهمزة آية/1.
2ـ الدر المنثور 8/624.
3ـ المصدر السابق.
4ـ الدر المنثور 8/624.
__________________________________

المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة لكرام رضي الله عنهم أجمعين.
لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك لأن الله ـ تعالى ـ اختارهم لصحبة نبيه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وبلغوا الذروة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان له وزراء وأنصاراً يذبون عنه وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملاً غير منقوص، ولمقامهم الشريف ولما لهم من القيام التام بأنواع العبادات، وصنوف الطاعات والقربات جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريهم أو الطعن فيهم والحط من قدرهم ومن تلك النصوص:
1- ما روا الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه” 1.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً بلفظ: قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه” 2.
2- وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد
__________
1ـ صحيح البخاري 2/292.
2ـ صحيح مسلم 4/1967-1968.
__________________________________

2- وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ـ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ـ، فقال: “دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدي لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم” 1.
هذان الحديثان اشتملا على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم، وفيهما التصريح بتحريم سبهم، وقد عد بعض أهل العلم سبهم “من المعاصي الكبائر”2.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: “واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنه مجتهدون في تلك الحروب متأولون”3.
والنهي في هذين الحديثين المتقدمين كان موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كانت له صحبة متأخرة، أن يسب من كانت له صحبة متقدمة “لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق حدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم”.
وقد سبق ذكر العديد من أقوال العلماء في شرح هذا الحديث في باب مكانة الصحابة .
فالنهي عن سبهم عام لكل من وجد على ظهر الأرض أيا كان عن أن يسب أي واحد من الصحابة.
__________
1ـ المسند 3/266، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير: 3/531.
2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.
3ـ المصدر السابق.
__________________________________

4- روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي” 2.
5- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” 3.
6- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله من سب أصحابي”4 .
هذه الأحاديث الثلاثة مشتملة على لعن من سب الصحابة ودلت على أن سبهم من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي كبائر وعد سب الصحابة منها5، فعلى المسلم أن يحذر من سبهم أو يتعرض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم “وسبهم معناه: شتمهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم ” فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين” الطرد والإبعاد عن مواطن الأبرار، ومنازل الأخيار، والسب والدعاء من الخلق وتحريم سبهم يشمل من لابس الفتن ومن لم يلابسها، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونبسبتهم إلى الضلال أو الكفر كفر”6.

__________
2ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/21، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة.
3ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له “بالحسن”. انظر فيض القدير 6/146.
4ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له “بالصحة” انظر فيض القدير: 5/274.
5ـ انظر كتاب الكبائر للذهبي ص/233-237.
6ـ فيض القدير للمناوي 6/146-147.
__________________________________

7- روى الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” 1
فإذا كان هذا الوعيد يلحق من سب كل أي مسلم كان فما الشأن بمن يسب خيار المسلمين والأبرار من عباده المتقين وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
قال المناوي مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “سباب المسلم فسوق” أي: مسقط
للعدالة والمرتبة، وفيه تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق وأن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه لا كما زعم المرجئة، أنه لا يضر مع التوحيد ذنب2.
فكل من سب الصحابة رضي الله عنهم أو واحداً منهم أسقط نفسه من العدالة وفسق بذلك وأدى إلى نقصان إيمانه بخروجه عن الطاعة.
فلا يجوز سب أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي وجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن أي كلام يصدر من بعض الصحابة لآخرين منهم يتضمن الأذى وكان يحذر من ذلك أشد تحذير.

__________
1ـ صحيح البخاري 1/18، صحيح مسلم 1/81.
2ـ فيض القدير 4/84.
__________________________________

8 – فقد روى الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا” 1.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا ذكر أصحابي” بما شجر بينهم من الحروب
والمنازعات “فأمسكوا” وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة وخير القرون، ولما جرى بينهم محامل2، فالذي يشغل نفسه بما حصل بينهم من الوقائع ويتخذ ذلك ذريعة لسبهم والطعن فيهم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم في أمره بالإمساك عن الكلام فيهم إذا ذكر ما شجر بينهم وعصاه أيضاً: في أمره بالإحسان إليهم وأمره بحفظه فيهم.
9- فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى إلى جابر بن سمرة، قال: خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: “أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” 3.
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالإحسان إلى جميع الصحابة والإحسان يكون بالقول كما يكون بالفعل، فيجب على جميع الناس بعدهم أن يحسنوا إليهم بكف ألسنتهم “عن غمطهم أو الوقيعة فيهم بلوم أو تعنيف لبذلهم نفوسهم وإطراحها بين يدي الله تعالى في الحروب وقتالهم القريب والبعيد في ذات الله، وبذلهم أموالهم وخروجهم من ديارهم وصبرهم على البلاء والجهد الذي لا يطيقه غيرهم، وليس ذلك إلا عن أمر عظيم ملك البواطن وصرفها على حكم محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا بذلك الرعاية وكمال العناية”4. فالذي يسبهم ويطعن فيهم لم يحسن إليهم ولم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما أتى بعكس ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه فعل ضد ما أمر به وهو الإساءة إليهم بالقول السيء نعوذ بالله من ذلك.
والأحاديث التي اشتملت على تحريم سب الصحابة والنهي عنه كثيرة فالواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في ذلك ويعتقد حرمة ذلك وأنه من أعظم الذنوب التي لا يقع فيها إلا رافضي غال جعل للشيطان على نفسه سبيلاً يتبعه في كل شيء يأمره به مما فيه معصية لله ـ عز وجل ـ.
والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاحترامهم ومعرفة حقهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم، وحفظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث اعتقدوا ما دل عليه الكتاب والسنة من حرمة سبهم فهم العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يجب لهم من الحق على الخلق بعدهم حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم …

__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/202، وقال: رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو نعيم في الحلية 4/108، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالحسن. انظر فيض القدير للمناوي 1/347-348.
2ـ فيض القدير للمناوي 1/347.
3ـ المسند 1/26، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند 1/230: إسناده صحيح. وأورده الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 431.
4ـ فيض القدير للمناوي 1/197.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*