ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة مقالة 4

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة مقالة 4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:

دعوة العلماء بالدين
الصنف الأول
العلماء بالدين والقول في نصيحة العلماء وتذكيرهم وتخويفهم وتحذيرهم
* * *
اعلم أن العلماء هم الرؤوس من الناس والوجوه فيهم، ومثلهم منهم مثل الملح من الطعام، يصلح الطعام بصلاحه، ويفسد بفساده، ولذلك قيل:
يامعشر القراء ياملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
فالقراء هم العلماء، وقد كان يطلق هذا الاسم عليهم في الأزمنة السالفة، فإن حملة القرآن كانوا هم العلماء بدين الله وبأمره وأحكامه حيث كانوا إذا قرأوا القرآن تفقهوا فيه، وعلموا آمره وناهيه، وواعظه وزاجره، وما ينبغي الوقوف عنده منه، ولذلك عز من جمع القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى أنه قبض صلوات الله وسلامه عليه عن ألوف كثيرة من الصحابة. لم يجمع القرآن منهم إلا نفر قليل، قيل: أربعة، وقيل: سبعة على خلاف في ذلك. وكان من يحفظ سورة (البقرة) وسورة (آل عمران) يعد من علمائهم وفقهائهم، وفي الحديث (من استظهر القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحى إليه)، ومعنى استظهر القرآن: أي حفظه عن ظهر قلب، وهو الحفظ بالغيب.
فالقرآن تنزيل عظيم من رب عظيم، على رسول كريم قد جمع الله فيه علم الأولين والآخرين، وأخبار السابقين واللاحقين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فيه نبأ من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن التمس الهدى من غيره أضله الله) الحديث.
فقد آل الأمر إلى أقوام يقرأ القرآن أحدهم من فاتحته إلى خاتمته لا يدري ما هو، ولا فيم أنزل، ولا لأي شيء أنزل، ثم إنه لا يهمه أنه لا يعلم ولا يدري حتى تنبعث منه داعية لأن يطلب علم ذلك ومعرفته؛ وذلك من فرط غفلته، وشدة انصراف قلبه عن فهم كتاب ربه استغراقا بالدنيا، ورغبة في شهواتها، واغترارا بزخارفها؛ فمن أضل ممن هذا الوصف وصفه ؟ وهذا الشأن شأنه؟ { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }.
فقد علمت أن القرآن العظيم أصل العلوم ومعدنها لِلَّهِ ومجمعها وموطنها؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }، وقال تعالى:: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }.
فإذا رأيت الرجل يقرأ القرآن ولا يرتله، ولا يتدبره ولا يفهم فيه، ورأيته يحضر عند تلاوته وهو يلهو ويلغو، فلا تشكن في أنه غافل محجوب، مصروف عن آيات الله، قد حل به من الله مقت وسخط، وقد اٌقفل الله على قلبه؛ قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ولا يغرنك أنه يقرأ القرآن وقد ورد: (أن أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) وما ينفعه ذلك، وقد أصبح القرآن حجة الله عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك)، وفي الحديث الآخر: (من جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة، ومن ساقه خلف ظهره قاده إلى النار).
فتبين أن من أخذ بالقرآن إيمانا وعلما وعملا فاز وسعد في الدنيا والآخرة، ومن ضيعه وتعدى حدوده خاب وخسر، وضل عن سواء السبيل، وصار ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، وممن كذب بآيات الله وصدف عنها(1) قال الله تعالى: { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ }.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين).
فاجتهد أيها القارئ أن تكون ممن يرفعه الله بالقرآن، بأن تقرأه كما أنزل وأن تتلوه حق تلاوته، فترتله وتتدبر معانيه، وتقف عند كل آية منه وتنظر فيها: هل أنت بها عالم، وهل أنت بها عامل ؟ فإن كانت من آيات الأمر نظرت: هل أنت لذلك الأمر ممتثل ؟ وإن كانت من آيات النهي نظرت: هل أنت لذلك النهي مجتنب؟ وكذلك في بقية الآيات. وإن مرت بك آية فوجدت أنك لا تعلم علمها سألت عنها من يعلمه؛ فبذلك تصير من التالين لكتاب الله كما يحب ويرضى إن شاء الله تعالى.
ولا تكن ممن يقرأ ولا يدري، ويهذُّ القرآنَ هذَّ الشعر، وينثره نثر الدَّقَل(2)؛ فيصبح من النادمين، ويكون في الآخرة من الخاسرين.
__________
(1) – صدف: أعرض.
(2) – الهذ- بالذال المعجمة-: سرعة القراءة. والدقل – محركا-: أردأ التمر.

وإذا كنت ممن حفظ القرآن وتلاه، ثم لم تعد ولم تذكر في علماء الدين: فلست تحفظه ولست تتلوه حقيقة، وإنما ذلك مجاز لِلَّهِ أو صورة تقوم به عليك الحجة فقط لِلَّهِ فإن القراء هم العلماء مهما كانوا، يقرأون القرآن كما أمروا ويتلونه كما وصفوا؛ حسبما تقدم من البيان. والله الهادي إلى الصواب.
وقد طال الكلام وامتد في شأن حملة القرآن ,وأنهم كانوا هم العلماء فيما قد مضى من الأعمار والأزمان حيث كانوا يحملونه مع العلم به والعمل بما فيه , إلى أن صاروا بحيث لا يعدون من أهل العلم ولا يوصفون به لِلَّهِ فانظر رحمك الله تفاوت ما بين من مضى ومن بقي.
ثم اعلم أنه قد غلب على أهل العلم الغرور والفتن , واستولى عليهم الإعراض والغفلة , وتركوا العمل بالعلم , وصار العلم على ألسنتهم دون قلوبهم , وفي أقوالهم دون أفعالهم , فصار العلم بذلك حجة الله عليهم , كما قال عليه الصلاة والسلام: (العلم علمان: علم في القلب فذلك هو العلم النافع. وعلم على اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم ). وفي دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللَّهمَّ إني أسألك علما نافعاً ), واستعاذ صلوات الله عليه وسلامه من علم لا ينفع , وقلب لا يخشع.
فتبين بذلك انقسام العلم إلى نافع وغير نافع , وانقسام أهل العلم إلى منتفع به وغير منتفع؛ حتى إن العلم قد يكون من العلوم النافعة ولا ينتفع به صاحبه إذا كان يعمل على خلاف علمه، فيكون حاله كحال الإناء الخبيث إذا جعل فيه الطعام الطيب خبثه. وقد قال بعض العلماء رحمه الله: زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة في أصل شجرة الحنظل؛ كلما ازدادت ريا ازدادت مرارة. وأراد بشجرة الحنظل شجرة الحدج؛ وعلى هذا فيكون كلما قل ريه بالماء قلت مرارته؛ فيكون العالم السوء كلما قل علمه قلت فتنته وفساده ومضرته، ولا تستبعد هذا، فإن مثل بني آدم في طباعهم واختلافها، مثل والأشجار والأراضي في اختلاف طبائعها وجواهرها، فإن من الأشجار والأرضين ما يحسن وينمو ويطيب بوصول الماء إليه وريه منه. ومنها ما يكون على الضد من ذلك، مثل الأشجار المرة وذوات الشوك؛ ومثل الأراضي السبخة والقيعان المعطلة التي يزيدها الماء مرارة وشوكا، وملوحة وفساداً.
ومن عجائب ما ذكر: أن مطر الربيع يقع بالمواضع التي يكون فيها الدر واللؤلؤ فتفغر له الأصداف أفواهها وتنطبق عليه؛ فيصير فيها بإذن الله تعالى درا ولؤلؤا. وتفغر له الأفاعي أفواهها فيكون فيها سما نافعا ؟ وهو مطر واحد في حين واحد؛ فيختلف إلى هذه الغاية باختلاف مواضعه، والمحال القابلة له.
فلا تستبعد بعد هذا مصير العلم في الرجل السوء ضارا أو غير نافع. والعلم إنما هو عرض يقوم بغيره، وآلة صالحة للصلاح والنفع إذا وقع عند أهل الصلاح والإنتفاع، وبضد ذلك إذا وقع عند أهل الفساد والإضرار.
ثم إن العلم الذي يكون عند العالم السوء ليس هو العلم الحقيقي الديني , بل هو صورته وقالبه , وهو على لسانه و ظاهره ليس في قلبه ولا في باطنه شيء منه. قال الإمام مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وفي كلام ابن مسعود رضي الله عنه مثله، وقال: إنما العلم خشية. وفي بعض الآثار: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل: أي يرتحل معناه وحقيقته، ونوره وبركته. ويبقى رسمه وصورته، تقوم به الحجة على صاحبه.
وللإمام الشافعي رحمه الله نظما:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي… فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور… ونور الله لا يهدى لعاصي
يشير بذلك إلى حقيقة العلم وروحه، على مثل ما قررناه وبيناه.
وقال عمر رضي الله عنه: أخوف ما أخاف عليكم أو قال على هذه الأمة فاجر عليم اللسان.
وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك، هذا ينفر الناس بتهتكه، وهذا يغر الناس بتنسكه. انتهى.

فقد تبين واتضح: أن العالم التقي المصلح خير كله، ونفع وصلاح لنفسه وللمسلمين، وأنه العالم الذي لا يتقي الله ولا يخشاه شر كله، وبلاء وفتنة على نفسه وعلى المسلمين.
وقد ضربوا للعلماء السوء أمثالاً، وقد تُروى عن عيسى ابن مريم عليه السلام:
(أحدهما): أن مثلهم مثل قناة الحش، ظاهرها جص وباطنها نتن.
(والثاني): أن مثلهم مثل القبور، ظاهرها معمور وباطنها عظام الموتى.
(وثالثها): مثل البيت المظلم وعلى ظهره المصباح، الضياء على ظاهره والظلمة على باطنه. وأشد من هذا كله وأشنع: ما ضرب الله المجيد في كتابه العزيز للعلماء السوء من الأمثال، حيث شبههم بأخس الدواب: الحمير والكلاب؛ حيث يقول عز من قائل: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً }، وقال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا } إلى قوله تعالى: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث }.
ولا شك أن الدواب والبهائم أحسن حالاً ممن نبذ كتاب الله وضيَّع أمره، واستهان بحقه؛ فإن البهائم والدواب تموت ثم تصير إلى التراب، وهو يصير إلى النار والعذاب والبوار، وقد قال عليه الصلاة و السلام: ( أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)(1) وقال عليه الصلاة والسلام: (من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا) (2) وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤمر العالم إلى النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحا) الحديث. والأقتاب: هي الأمعاء.

** ثم إن العلوم فنون وأنواع كثيرة، والعلماء أصناف كثيرة وعلى مراتب ومنازل متفاوتة.
فأما العلوم الدينية الشرعية فيجب وجوبا متأكدا أن لا يريد العالم بها والمتعلم لها بتعليمها وتعلمها إلا وجه الله والدار الآخرة، ويجب ويتأكد العمل بها ونشرها، والدعاء إليها لوجه الله والدار الآخرة. وقد وعد الله على القيام بذلك رضاه وثوابه العظيم، وتوعد على ترك ذلك والتقصير فيه، بسخطه وعذابه الأليم.
ومن العلوم ما ليس بديني ولا شرعي بحكم الأصالة، كعلوم اللغة والحساب والطب، فيجوز أن تعلم هذه العلوم وتتعلم لقصد الأمور الدنياوية المباحة، ولو قصد العالم بها والمتعلم لها أمر الدين وذلك فيما يصلح التوسل به إلى الدين، ويتوصل به إليه ويستعان عليه كان له في ذلك ثواب عظيم، وأجر من حيث أن للوسائل حكم المقاصد.
وأما العلماء فأفضلهم وأرفعهم عند الله منزلة من يتعلم العلم ويعمل به، ويعلمه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، من غير أن يكون له قصد في ذلك، ولا غرض آخر من أغراض الدنيا البتة، أولئك هم المفلحون الفائزون برضوان الله وجواره في دار كرامته، والسائرون على سبيل أنبيائه ورسله، والوارثون لهم الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) عليهم السلام.
ومن أهل العلم من تكون نيته في تعلمه العلم وتعليمه مقصورة على الدنيا ونيل الجاه والمال، والمنزلة عند الناس، وأشباه ذلك من الحظوظ الفانية، ولكنه يستشعر في نفسه سوء حاله،

__________
(1) رواه الطبراني في الصغير وابن عدي في الكامل، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة.
(2) في الجامع الصغير: رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي، ولكن بلفظ (من ازداد علماً ولم يزدد في الدنيا زهداً لم يزدد من الله إلا بعداً).

وخسة قصده ونيته، وشؤم تقصيره؛ فذلك على خطر وعاقبته مخوفة، ومع ذلك فالتوبة مرجوة له،والانتباه من غفلته وسوء نيته.
ومن أهل العلم من يكون نيته وقصده بعلمه المنافسة والمباهاة، والمجادلة والمماراة، والتمكن من حظوظ الدنيا ونيل الولايات فيها، وحصول المنزلة عند أهلها، ونحو ذلك من حظوظ الدنيا الخسيسة، وهو مع ذلك يضمر في نفسه ويستشعر فيها أنه على حالة مرضية، ونية محمودة، ومنزلة عند الله رفيعة لترسمه برسوم العلماء في الزي والمنطق وظواهر الأحوال. فهذا العالم بأشر المنازل، وأوضع المراتب، ويكاد يدخل في عموم قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }.
قال حجة الإسلام رحمه الله فيمن هذا وصفه: فهذا من الهالكين، ومن الحمقى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لظنه أنه من المحسنين، وهو ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال) قيل: فما هو يا رسول الله؟. قال: (العلماء السوء) انتهى.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب علما مما يبتغي به وجه الله لا يطلبه إلا لينال به عرضا من الدنيا لم يجد عرفا من الجنة يوم القيامة) وعرف الجنة: ريحها؛ وهو كما في الحديث:(يوجد من مسيرة خمسمائة عام).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجادل به العلماء ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار).

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*