ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة مقالة 3

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة مقالة 3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:
وقفنا عند كلام القرآن الكريم عن حال هؤلاء الذين كل همهم الدنيا ويتجاهلون ويتناسون أن وراءهم يوماً ثقيلا، وفي أمثال هؤلاء يقول الله تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }، وقال تعالى: { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.
والحق أن الإشتغال بطلب معرفة الدين، والتبصر في العلم والقيام بحق الله علماً وعملاً هو الأصل والأساس والرأس والذي عليه التعويل، وأمور الدنيا كلها إنما هي تابعة أعني المهم منها، وأما ما ليس بمهم فمنهي عنه ومزهد فيه. فانظر كيف يعكس الجاهل الغافل الأمور بجهله، ويرد الرأس ذنبا والذنب رأس، والتابع متبوع، والمزهود فيه والمرغوب عنه مرغوبا فيه تعرف بذلك شؤم الجهل ومضرته، وكونه بلاء وخزيا على أهله في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل… ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقيل أيضا:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله… فأجسادهم قبل القبور قبورُ

وقد غلب الجهل، واستولى على أهل هذا الزمان السيئ حاله، وذهب بهم كل مذهب؛ حتى صار الكثير منهم أو الأكثر لا يعلم ولا يدري بالحق والدين ما هو ولا بالآخرة والمصير إلى الله كيف هو. فصارت تلك بلية عظيمة عم ضررها الجاهل والعالم، والعام والخاص.
فأما تضرُّر الجاهل بها فليس بخفي؛ لأنه قد أضاع بسببها ما فرض الله عليه من معرفة دينه وتعلم أحكامه.
وأما تضرر العالم بها فلتقصيره في الدعاء إلى سبيل الله، وتعليمه الناس ما يجهلونه من أحكام دينه مع تمكنه من ذلك. فإذا صار الجهال بحيث لا يعلمون وجوب طلب ما فرض الله عليهم طلبه من علم الدين، وجب على العلماء تعريفهم بذلك، وحرم عليهم السكوت عنه، ولم يعذرهم الله في ترك ابتداء الجهال بالتعريف، والتعليم للجاهل الذي يكون هذا وصفه، وللعلماء في ذلك شغل شاغل عن كثير من مهماتهم.
* * *
واعلم أن في الإسلام فترات والناس اليوم في بعضها؛ إذ قد صار كثير ممن تشتمل عليه دائرة الإسلام لا يعلمون ما فرض الله عليهم من طاعته، وما حرم عليهم من معصيته، ولا يعلمون بوجوب طلب علم ذلك عليهم ثم العمل به، فمتى ينتهضون لذلك، ويأخذون في طلبه وهم لا يعلمون بوجوب ذلك عليهم ؟ فتعينت المطالبة على أهل العلم والدعوة إلى الله في حقهم، بأن يعرفوهم بوجوب ذلك عليهم، ويحثوهم على طلبه ابتداء منهم؛ فإن من لا يعرف ولا يعلم لا يمكن منه الطلب والتعرف.
وهذه الفترات التي تكون في الإسلام، وتقع بين الدعاة إلى الله وإلى دينه تشبه الفترات التي تكون بين الرسل من بعض الوجوه. وقد أشار إلى ذلك الشيخ العارف عبد الوهاب بن أحمد الشعراني(1) رحمه الله في أول كتابه المسمى: (تنبيه المغترين) أواخر القرن العاشر.وهي غير الغربة التي تكون للدين في آخر الزمان، واقتراب الساعة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يحيون ما أمات الناس في سنتي) الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: (دخل الناس في هذا الدين أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا كما دخلوا).
فمن أهل هذا الزمان من لا يعرف الحق والدين، ولا يعرف أن معرفة ذلك واجبة عليه.
ومنهم من يعرف وجوب ذلك ولكنه لا يطلب معرفته تساهلا وتغافلا. أو تشاغلا بأمور الدنيا واستغراقا في جمعها والتمتع بشهواتها.
__________
(1) هو الإمام العارف بالله أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني؛ نسبة إلى قرية ساقية أبي شعرة من قرى المنوفية بالوجه البحري بمصر؛ وهي التي نشأ بها. وتوفي بمصر سنة 983ه-.

ومنهم من عرف ذلك وطلب معرفته، ولكنه لم يعمل بما عرفه وعلمه.
ومنهم من عرفه وعمل به، ولكنه لم يخلص لله في ذلك؛ بل علم وعمل لأغراض دنياوية وحظوظ فانية.
وكل هذه الأصناف ضالّون مفتونون؛ غير أن بعضهم أضل من بعض وأشد فتنة؛ وما أحسن ما قال بعض الأئمة من السلف الصالح رحمهم الله: الناس كلهم موتى إلا العلماء، والعلماء كلهم موتى إلا العاملون، والعاملون كلهم موتى إلا المخلصون، والمخلصون كلهم موتى إلا الوجلون، والوجلون على خطر عظيم. انتهى بمعناه.
فقد علمت بما تقدم ذكره من إعراض العامة عن معرفة الدين والطلب للحق، ورضاهم بالجهل والعمى بدلا عن العلم والهدى، أنه قد تضاعفت المؤونة، وعظمت المطالبة على أهل الدعوة إلى الله والبصيرة بدينه، والمعرفة بعلمه حيث تعين عليهم كمال القيام، والحرص على إرشاد الخاص والعام، وبدايتهم بذلك، وإشاعته فيهم، ونشره بين أظهرهم؛ ليعرف ذلك من لم يعرفه ويعلمه، فتتضح محجة الله للسالكين، وتقوم حجة الله على الهالكين.

وعلى الدعاة إلى الله والعلماء بدينه أن يكونوا على نهاية وغاية من الرحمة والشفقة على المسلمين، ومن الحرص والرغبة في إرشادهم وهدايتهم، ودعائهم إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وأن يكونوا على نهاية من الصبر والاحتمال، وسعة الصدر ولين الجانب، وخفض الجناح وحسن التأليف؛ قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }، وقال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } الآية. وإن احتاجوا إلى شيء من الشدة والغلظة مع من لا يصلحه إلا ذلك، فيكون ذلك في الظاهر دون الباطن، وعلى وجه لا يقتضي ولا يفضي إلى تنفير وفرقة.
وإن دخل عليهم (أعني أهل الحق والدعاة إلى الله) شيء من الأذى من الجاهلين بسبب ذلك، كان عليهم أن يصبروا ويعرضوا ويقولوا خيرا؛ قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }، وقال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }.
فقد قاست الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من أئمة الحق والهدى، من طوائف الجاهلين والمعرضين من الأذى أمرا عظيما، فصبروا واحتسبوا، ولم يزدهم ذلك إلا حرصا على إرشادهم وهدايتهم إلى سبيل الله تعالى، ونصيحتهم في دين الله، وحثهم وتحريضهم على إقامة أمر الله واجتناب نهيه.
هذا الذي درج عليه أنبياء الله ورسله والأئمة من أممهم، والدعاة إلى دينهم من هذه الأمة المحمدية وغيرها من الأمم السالفة.
وأما إذا لم يقابل الداعي إلى الله وإلى دينه بالرد الصريح وبالإيذاء، ولكنه لم يسمع منه ولم يقبل دعاؤه، أو قبل منه وأجيب، ولكن لم يظهر على المستجيبين آثار الإستجابة من الأخذ بالحق والعمل به، فليس له مع ذلك عذر في ترك الدعاء إلى الله وإلى سبيله، ولو أن يستجيب له في الزمن الطويل العدد القليل.
ومثل هذا الحال الذي وصفناه، يكون حال الداعي الناصح في أكثر الجهات الإسلامية في هذه الأزمنة(1)، أنه لا يؤذى ولا يردُّ عليه الردُّ الصريح؛ بل يُقبَلُ الحقُّ منه أو لا يُقبل، ويعمل بما يدعو إليه أو لا يعمل.
وربما يجيء زمان بعد هذه الأزمنة، وأيام بعد هذه الأيام، يشتد فيها التكبر، ويعظم فيها الأذى على من يدعو إلى الحق وينصح في الدين. فليغتنم الداعي إلى الله وإلى الهدى في هذه الأيام الدعاء إلى الله فيها وإلى دينه والحال ما وصفناه، من قبل أن يأتي زمان آخر، وناس آخرون يرد فيه الحق على أهله ردا صريحا، ويؤذون على ذلك أذى قبيحا؛ بل ربما يبادؤون بالأذى من قبل أن يدعوا إلى الحق والهدى، وذلك عند اقتراب الساعة وظهور أشراطها وأماراتها العامة. كما يعرف ذلك من نظر في الأخبار والآثار.
ومن نعم الله على الداعين إلى الله وإلى دينه في هذا الزمان أنهم إذا دعوا ونصحوا باللسان العام، لم يُرَدَّ عليهم ولم يُؤذَوا. وأيضا إذا خصُّوا، اللهم إلا أن يكون ذلك من بعض الجبارين والمتكبرين من أمراء الجور وولاة السوء. فليتق الدعاة إلى الله التخصيص والتعيين ليسلموا من سوء ردهم وفتنتهم وأذيتهم؛ فإنهم ربما ضعفوا عن احتمال ذلك، وضاقت صدورهم وضجروا وتبرموا، وجعلوا ما يلقونه من هؤلاء المفتونين حجة لهم في السكوت عن النصيحة،
__________
(1) – توفي المؤلف عام 1132ه-.

ورخصة في الإمساك عن الدعاء إلى الحق والدين. وليتأسوا بسيد النبيين وإمام الناصحين (محمد صلى الله عليه وسلم) فإنه كان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لا يصرح بذكره؛ ولكن يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا) كما في الأحاديث. وذلك تألفا منه ورفقا، وتلطفا وسترا. وقد قال في وصفه عليه الصلاة والسلام ربه عز من قائل كريم: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } صلوات الله وسلامه عليه، وزاده شرفا وكرامة لديه، ورزقنا كمال الإتباع له وحسن التأسي؛ كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }.
فقد تبين واتضح بما ذكرناه: أنه لا عذر ولا رخصة للعلماء بالدين في ترك الدعوة إلى الله، وبذل النصيحة للمسلمين، وتعريفهم بما يجب من طاعة الله واجتناب معاصيه، وأنه لا عذر ولا حجة لأهل الجهل في ترك القبول منهم، والإستجابة لهم، والأخذ عنهم، بل عليهم أن يطلبوا ذلك، ويحرصوا عليه، ويقدِّموه على كل شغل ومهم من مهمات معاشهم؛ فإن قصروا في طلب ذلك والسعي له، لم يسع العلماء بالدين، والدعاة إلى سبيل الله رب العالمين:أن يسكتوا كما سكتوا، أو يتركوا كما تركوا، فيكونوا سواء في الإضاعة والإهمال، والتهاون بحق الله الكبير المتعال.
قال حجة الإسلام رحمه الله تعالى: (في آخر الكتاب الثالث من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحياء): اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر؛ من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم، وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد؛ فكيف في القُرى والبوادي ؟. ومنهم الأعراب والأكراد، والتركمانية وسائر أصناف الخلق.
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلاد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية.
وواجب على كل فقيه فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية: أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد، أو من العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زادا يأكله ولا يأكل من أطعمتهم؛ فإن أكثرها تكون شبهة مغصوبة، فإن قام به واحد سقط الحرج عن الآخرين، وإلا عم الحرج الكافة أجمعين. أما العالم فلتقصيره في ترك الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم. وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريكه في الإثم.
ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالما بالشرع، وإنما يجب التبليغ على أهل العلم وكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها.
ولعمري؟ إن الإثم على الفقهاء أشد، لأن قدرتهم فيه أظهر، وهو ببضاعتهم أليق، لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش، فهم قد تقلدوا أمرا لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، وليس للإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد، لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي.
وكذلك كل من تيقن أن في السوق منكرا يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه الخروج.
فإن كان لا يقدر على تغيير البعض وهو يحترز عن مشاهدته ويقدر على البعض، لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا تضره مشاهدة ما لا يقدر عليه،وإنما يمتنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح.
فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات , ثم يعلم ذلك أهل بيته, ثم يتعدى عند الفراغ منهم إلى جيرانه , ثم إلى أهل محلته , ثم إلى أهل بلده , ثم إلى أهل السواد المكتنف لبلده , ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم , وهكذا إلى أقصى العالم , فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد, وإلا حرج به كل قادر عليه قريبا كان أو بعيدا , ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه، وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه، وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تزجية الأوقات، أي إضاعتها في التفريعات النادرة، والتعميق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات، ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه والسلام على من اتبع الهدى.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*