مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مقالة 3

مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مقالة 3

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حياة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – 

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

 

الفصل الثاني

حياة أم المؤمنين العلمية

 

اكتسبت أم المؤمنين – رضي الله عنها – علماً غزيراً صافياً من نبع النبوة الذي لا ينضب، فكانت أفقه نساء المسلمين، وأعلمهن بالدين وأصوله وفروعه والأدب، ولا يحدث لها أمر إلا أنشدت فيه شعراً، وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفقه والفرائض، فتجيبهم.

 

قال عطاء – رضي الله عنه -: (كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا) [41].

 

ولعل أهم الأسباب التي ساعدت أم المؤمنين على اكتساب هذا العلم ما يلي:

1- الذكاء وقوة الحفظ: امتازت أم المؤمنين – رضي الله عنها – بالذكاء الوقاد، وقوة الحفظ والاستذكار مما ساعدتها – بفضل الله – على حفظ كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفقههما.

 

2- علمها بالعربية وفنونها وأشعارها: وقد كانت رضي الله عنها عالمة بالعربية وفروعها وأشعار العرب ونوادرهم، فصيحة اللسان مما ساعدها على فهم القرآن وتفسيره وقد تعلمت من والدها الصديق البلاغة والفصاحة فقد كان الصديق علامة العرب في ذلك.

 

3- نشأتها في بيت النبوة: نشأت السيدة عائشة – رضي الله عنها في بيت النبوة فشاهدت أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – واطلعت على أخباره فتعلمت حكمته وكل شؤونه وخاصة ما يتعلق بأحكام النساء.

 

4- حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تعليمها: كان رسول الله  – صلى الله عليه وسلم – حريصاً على تعليمها لما لمسه من ذكاء وفطنة، فكان عليه الصلاة والسلام يحدثها ويفقهها بالدين.

 

5- نزول الوحي في فراشها: فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها رضي الله تعالى عنها[42].

 

وقد أخذ عنها كثير من الصحابة، والتابعين وخلق كثير، وروي عنها (2210) أحاديث، ولها آراء فقهية كثيرة، واجتهادات عديدة، وتخرج من مدرسة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عدد كبير من سادة العلماء ومشاهير التابعين.

 

قال أبوموسى الأشعري – رضي الله عنه: (ما أشكل علينا – أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندنا منه علماً) [43].

 

وكان لأم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله تعالى عنها – تلاميذ كثرمن التابعين الذي أخذوا العلم عنها ونشروه في الأمصار الإسلامية، فصاروا أئمة يُقتدى بهم في العلم والعمل ومن أشهر هؤلاء – رضي الله عنهم – عروة بن الزبير[44]، والقاسم بن محمد بن أبي بكر[45]، ومسروق بن الأجدع[46] وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية[47] – عليهم رحمة الله تعالى أجمعين.

 

وكان هؤلاء التلاميذ النجباء يتلقون العلم في غرفة قصية البناء، مبنية من جريد عليه طين من حجارة مرضونة وسقفها من جريد [48]، وكانت رضي الله عنها تضع حجاباً بينها وبين طلاب علمها النبوي الشريف.

 

وكانت الصديقة رضي الله عنها ذات منهج علمي مميز، ولعل أبرزه ما فيه ما يلي:

1- توثيق المسائل: كانت رضي الله عنها إذ تحرص على تتبع توثيق المسائل بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – عن يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمْرَةَ بنت عبد الرحمن، أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وقد بعثت بهديي فاكتبي إليّ بأمرك، قالت عمرة:، فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، “أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيء أحله الله له حتى نحر الهدي)[49].

 

2- الورع عن الكلام بغير علم: كانت رضي الله عنها تتورع عن الكلام بغير علم، ومن مثل هذا ما قال شريح بن هانىء قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسألناه، فقال جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم.[50]

 

3- الجمع بين الأدلة وفهم مقاصد الشريعة: كانت رضي الله عنها تعتمد على الجمع بين الأدلة وفهم الشريعة وعلوم العربية. ومن ذلك ما رواه عروة عن عائشة – رضي الله عنها – قال قلت: أرأيت قول الله عز وجل ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: 158] قال قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لوكانت على ما اولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لِمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلل وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما) قالت عائشة ثم قد سن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الطواف بهما، فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بهما) [51].

 

4- معرفتها بأدب الحوار: كانت رضوان الله عليها على معرفة عميقة وتامة بآداب الحوار وكل ما يلزم ذلك. كيف لا وهي التي تربت وتعلمت في بيت النبوة، انظر أخي القارئ إلى هذه القصة لترى وتتعلم أدب الحوار من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم –  عن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن – قال – فقلت: يا أبا عبد الرحمن أعتمر النبي – صلى الله عليه وسلم – في رجب؟ قال: نعم. فقلت: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبوعبد الرحمن؟! قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبي – صلى الله عليه وسلم – في رجب. فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لَمَعَهُ. قال وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم. سكت.[52]

 

5- الدقة في نقل الموروث النبوي: وكانت أم المؤمنين – رضي الله عنها – دقيقة جدًا في نقل الموروث النبوي  أمانة في النقل، وورعاً  وخوفاً من الله سبحانه وتعالى، عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنها سمعت عائشة وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول إن الميت ليعذب ببكاء الحي. فقالت عائشة يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى أو أخطأ إنما مر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على يهودية يبكى عليها أهلها، فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) [53].

 

6- اختبار المحدث: وكانت عائشة – رضي الله عنها – إذا لم تكن تعرف الحديث اختبرت قائله، فإن ضبطه قبلته، وهذا الأسلوب اتبعه نقاد الحديث فيما بعد في نقد نقل الرجال. عن عروة بن الزبير قال قالت لي عائشة يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ فإنه قد حمل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – علماً كثيراً – قال – فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً ولكن يقبض العلماء، فيرفع العلم معهم، ويبقى في الناس رءوساً جهالاً يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون). قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول هذا، قال عروة حتى إذا  كان قابل قالت له: إن ابن عمروقد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم – قال – فلقيته فساءلته فذكره لي نحوما حدثني به في مرته الأولى. قال عروة فلما أخبرتها بذلك قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص) [54].

 

7- عدم الإسراع في الكلام والتأني في سرد الأحاديث: اتبعت أم المؤمنين – رضي الله عنها – أسلوب النبي – صلى الله عليه وسلم – في التحدث والتعليم، فكانت رضي الله عنها تتكلم بتأني دون كلل ولا تكثر في الكلام والتحدث. عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له: ألا يعجبك أبوهريرة جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يسمعني ذلك وكنت اسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي ولو أدركته لرددت عليه إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يسرد الحديث كسردكم) [55].

 

وهذا نرى أن الصديقة بنت الصديق ملكة العفاف بحرا زاخرا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، ومدرسة قائمة بذاتها، ونابغة في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت رضوان الله عليها عاملًا كبيرًا ذا تأثير عميق في نشر العلم النبوي الشريف.

 

وفاة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -:

توفيت رضي الله عنها في خلافة معاوية – رضي الله عنه – ليلة الثلاثاء، السابع عشر من رمضان، سنة ثمان وخمسين من الهجرة، وهي ابنة ست وستين سنة، بعد مرض ألم بها حتى أنها شعرت بأنه مرض الموت، ولهذا أوصت: (أن لا تتبعوا سريري بنار، ولا تجعلوا تحتي قطيفة حمراء، وأن لا يصلي علي إلا أبوهريرة)[56].

 

ودفنت عليها رحمة الله عليها بالبقيع من ليلتها بعد صلاة الوتر [57]، بحسب وصيتها لعبد الله بن الزبير – رضي الله عنه، حيث قالت له: (ادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكي به أبداً) [58].

 

والحمد لله رب العالمين..

 

[41] المستدرك على الصحيحين، ج4/15.

[42] تفسير ابن كثير، ج3/487.

[43] رواه الترمذي في سننه، ج5/705.

[44] عروة بن الزبير : هو أبو عبد الله، القرشي الأسدي المدني أبوه الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر، ذات النطاقين، ولد في خلافة عمر بن الخطاب وتفقه بالسيدة عائشة رضي الله عنها.سير أعلام النبلاء، ج4/425.

[45] القاسم بن محمد بن ابي بكر الصديق : هو أبو عبد الرحمن التيمي المدني، الفقيه، قتل أبوه وهو صغير فتربى في حجر عمته عائشة رضي الله عنها، فورث عن عمته و معلمته رواية السنة حتى قيل : (أعلم الناس بحديث عائشة القاسم و عروة و عمرة بنت عبد الرحمن). تهذيب التهذيب.

[46] مسروق بن الأجدع : هو أبو عائشة الوادعي الهمداني، الكوفي، مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية  بن عبد الله و هو من المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – كفلته عائشة رضي الله عنها فلازمها و حمل عنها علما كثيرا ( تاريخ بغداد، ج13/233 – السير، ج4/67-68).

[47] عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة بن عدس، الأنصارية المدنية، الفقيهة، تربية عائشة و تلميذتها، ضمتها عائشة رضي الله عنها مع إخوتها و أخواتها إلى حجرها بعد وفاة والدهم، فنشات في بيت التقوى والعلم، وكانت ذكية الفؤاد لماحة، فوعت عن أم المؤمنين كثيرا من العلم، وكانت عالمة فقيهة و حديثها في الكتب السنة).
(الطبقات، ج8/480 – السير، ج4/508).

[48] البداية النهاية لابن كثير، ج3/3/220.

[49] رواه الشيخان. البخاري في صحيحه، ج2/ 564، ومسلم في صحيحه، ج2/895.

[50] أخرجه مسلم، ج1/232.

[51] أخرجه مسلم في صحيحه، 2/929.

[52] أخرجه مسلم في صحيحه، ج2/916.

[53] أخرجه البخاري في صحيحه، ج1/433 ومسلم في صحيحه، ج2/643.

[54] أخرجه مسلم. قال الإمام النووي – رحمه الله – قوله (إن عائشة قالت في عبد الله بن عمرو ما أحسبه إلا قد صدق أرواه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص) ليس معناه أنها اتهمته لكنها خافت أن يكون اشتبه عليه أو قرأه من كتب الحكمة فتوهمه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما كرره مرة أخرى وثبت عليه، وفي هذا الحديث الحث على الحفظ العلم و أخذه عن أهله واعترف العلم للعالم بالفضيلة) شرح النووي، ج16/225.

[55] أخرجه مسلم في صحيحه. وقال الإمام النووي : قولها : (لم يكن يسرد الحديث كسردكم ) أي يكثره و يستعجل فيه) شرح النووي، ج 16/54.

[56] الطبقات لابن سعد، ج8/76.

[57] البداية والنهاية، ج8 / 94.

[58] رواه البخاري، في صحيحه، ج3/255.

 

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*