المستحيل على الله سبحانه وتعالى

المستحيل على الله سبحانه وتعالى

المستحيل على الله سبحانه وتعالى

43- وَيستحِيلُ ضِدُّ ذي الصِّفاتِ *** في حَقّهِ كالكوْنِ في الجِهاتِ

ويستحيل: هذا شروع في ثالث الأقسام المتقدمة في قوله: فكل من كلف شرعاً وجبا عليه أن يعرف ما قد وجبا، لله والجائز والممتنعا، ولاشك في علم استحالة هذا القسم من وجوب القسم الأول له تعالى، وإنما تعرض له المصنف – هنا – على طريق القوم من عدم اكتفائهم بدلالة الالتزام ولا بدلالة التضمن بل مالوا إلى الدلالةالمطابقية لخطر الجهل في علم العقيدة. وضد الصفات الواجبة المار ذكرها يشمل الأمر الوجودي والعدمي. وليس المراد بالضد الأمر الوجودي فقط.

– ضد ذي الصفات في حقه: أي يستحيل ضد الصفات الواجبة في حقه تعالى وهذه الأضداد المنفية هي:

1 – العدم.

2 – الحدوث

3 – طرو العدم أي الفناء

4 – المماثلة للحوادث:

فليس بجرم سواء كان جسماً مركباً، أو جوهراً فرداً غير مركب، وليس بعرض قائم بجرم (لأنه متصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها من صفات المعاني، وليس العرض كذلك إذ لا تعقل هذه الأوصاف إلا لموجود قائم بنفسه) وليس في جهة للجرم، بأن يكون فوق العرش أو تحته أو عن يمينه أو عن شماله، ونحو ذلك، وليس له جهة بأن يكون له فوق أو تحت أو يمين أو شمال ونحو ذلك، لأن الجهات الست حادثة بإحداث الإنسان ونحوه يمشي على رجليه، فإن معنى الفوق ما يحاذي الرأس، وهكذا في سائر الجهات، فقبل خلق العالم لم تكن جهات، لذا كانت الجهات اعتبارية تقبل الانتفاء. فلو كان كل حادث مستديراً كالكرة – مثلاً – لما وجدت هذه الجهات. ولو كان الله سبحانه وتعالى في جهة لكان جوهراً أو جسماً، وهما باطلان في حقه تعالى. ومن أراد جهة غير الجهات الست المعروفة فقد أخطأ في التعبير لعدم وروده في اللغة – هذا إن قصد التنزيه – وإلا فيرد عليه لفساده فإن قيل فما بال الأيدي ترفع إلى السماء عند الدعاء، وهي جهة العلو؟ أجيب بأنها قبلة الدعاء تستقبل بالأيدي، كما أن البيت قبلة الصلاة يستقبل بالصدر والوجه، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزه – قطعاً – عن الحلول بالبيت أو بالسماء، ولا يتصف سبحانه بالصغر أو الكبر، بمعنى قلة الأجزاء أو كثرتها، وهذا لا ينافي أنه تعالى كبير في المرتبة والشرف. قال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي}

ولا يتصف بالأغراض في الأفعال والأحكام، إذ ليس خلقه الأكوان لمصلحة باعثة على ذلك الخلق، وهذا لا ينافي أنه لحكمة، لأنه إن انتفت الحكمة كان عبثاً، وهو محال في حقه سبحانه. وكذلك إيجابه الصلاة – مثلاً – علينا، فهو ليس لغرض باعث، وإن كان لحكمة.

5- ويستحيل عليه ألاّ يكون قائماً بنفسه، بأن يكون صفة يقوم بمحل، أو يحتاج إلى مخصص.

6- ويستحيل: ألاّ يكون واحداً بأن يكون مركباً، أو يكون له مماثل في ذاته، أو يكون في صفاته تعدد من نوع واحد، كقدرتين، أو إرادتين – مثلاً – أو يكون لأحد صفة كصفته تعالى، أو يكون معه في الوجود مؤثر في فعل من الأفعال. لهذا قال العلامة السعد: ..وقد يفسر شمول قدرته سبحانه بأن ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقع بقدرته وإرادته ابتداء، بحيث لا مؤثر سواه، وهذا مذهب أهل الحق من المتكلمين، وقليل ما هم، وهذا كله ضد الوحدانية.

7- ويستحيل أن يكون عاجزاً عن ممكن ما، وهذا ضد القدرة.

8- ويستحيل أن يوجد شيئاً من العالم مع الإكراه، أو يعدمه مع الإكراه، أو مع النسيان، أو مع السهو، أو مع التعليل (بأن يكون سبحانه علة تنشأ عنه الخلائق من غير اختيار، كحركة الخاتم بحركة الإصبع). ونحو نقول: “الخالق لحركة الإصبع ولحركة الخاتم هو الله تعالى من غير تأثير أحدهما في الآخر البتة” أو مع الطبع بأن يكون البارئ سبحانه طبيعة تنشأ عنه الخلائق من غير اختيار، كالنار تحرق بشرط المماسة لها بطبعها عندهم، ونحن نقول:المؤثر في الإحراق هو الله تعالى، ولا تأثير للنار فيه أصلاً. وهذا كله ضد الإرادة.

9- ويستحيل في حقه الجهل وما في معناه، كالظن والشك والوهم والنوم، وهذا ضد العلم. 10- ويستحيل في حقه الموت وهو ضد الحياة. 11- ويستحيل البكم النفسي، وهو ضد الكلام. 12- والعمى وهو ضد البصر. 13- والصمم هو ضد السمع. 14- حتى 20 ويستحيل كونه عاجزاً. أو مكرهاً. أو جاهلاً. أو ميتاً. أو أبكم. أو أعمى. أو أصم.

– كالكون في الجهات: هذا مثال من أمثلة المماثلة للحوادث، أي مما يستحيل في حقه تعالى أن يكون في جهة من الجهات الست. ولقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه، وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات، فهم قوم قد تصوروا الذات الإلهية كما صورتها لهم أخيلتهم، ثم راحوا يستنهضون ظواهر بعض آيات من كتاب الله تعالى إلى تلك الأخيلة لتصدقها ومن الزيغ أنهم يواجهون العامة وأشباههم بما اعتقدوه، ومن المؤسف أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح، ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون، ومن أقوالهم أن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية وأن له من الجهات الست جهة الفوق، وأنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقياً، بمعنى: أنه استقر استقراراً حقيقياً غير أنهم يعودون للقول: بأنه ليس كاستقرارنا، وليس على ما نعرف، وليس لهم مستند في ذلك إلا التشبث بالظواهر، ولقد تجلى مذهب السلف والخلف آنفاً، وفيه: أن حمل متشابهات الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأياً لأحد من المسلمين، إنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى، وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة. أما المسلمون فأمور العقائد – عندهم – معتمدة على الأدلة القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليس بجسم، ولا متحيزاً، ولا متجزئاً ولا متركباً، ولا محتاجاً لأحد لا مكان ولا زمان، ولا حالاً فيهما. ولقد جاء القرآن الكريم بهذا في محكماته إذ قال: {لَيسَ كمثْلهِ شيءٌ}. وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. وغير هذا كثير في الكتاب والسنة، وكل ما جاء مخالفاً بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات فهو من المتشابهات الذي لا يجوز اتباعها. ثم إن هؤلاء المتشبهين بالسلف – وما هم منهم، ولا من الخلف – متناقضون في أنفسهم، لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث، كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقيقتها ينفون هذه اللوازم، مع أن القول بثبوت الحقائق ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه عاقل فضلاً عن طالب علم أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة: إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم الجرمية والتحيز.

وقولهم بعد ذلك: ليس هذا الاستواء على ما نعرف، يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم الجرمية والتحيز. فكأنهم يقولون: إنه مستو غير مستو، أو متحيز غير متحيز، وجسم غير جسم، أو الاستقرار فوق العرش ليس هو الاستقرار فوقه، إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت.

نعم، إن أرادوا بقولهم: “الاستواء حقيقة” أنه على حقيقته التي يعلمها الله تعالى، ولا نعلمها نحن، فقد اتفقنا، لكن يبقى أن تعبيرهم هذا موهم ولا يجوز أن يصدر عن مؤمن خصوصاً في مقام التعليم، وفي موقف النقاش والحجاج لأن القول: “بأن اللفظ حقيقة أو مجاز” لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده، ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللغة، والاستواء لغة: يدل على ما هو مستحيل على الله تعالى في ظاهره، فلابد – إذن – من صرفه عن هذا الظاهر. واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له خرج عن الحقيقة – لا محالة – إلى المجاز، ما دامت ثمة قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ثم إن كلامهم هذا على هذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم، فكيف يواجهونهم به، وفي ذلك من الإضلال وتمزيق الأمة ما فيه؟ الأمر الذي نهانا القرآن الكريم عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بابن صبيغ وجعل مالكاً يقول ما يقول، كما مرّ في بحث سابق. ولو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الأخبار والآيات والمتشابهات، واكتفوا بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه، وفوضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله تعالى وحده لكنهم:

1- لم يسلكوا في النصوص المتشابهة مسلكاً واحداً، فتراهم يجنحون إلى تأويل بعضها. كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ}. وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْض}. ويتركون بعضها الآخر على ظواهرها ابتغاء إثبات ما قر في أنفسهم من عقيدة الجهة لله تعالى.

2- ولم يأتوا إلى النصوص المتشابهة وهم مُنَزَّهون، بل هم قد اعتقدوا عقيدة وأرادوا إثباتها، فراحوا يتلمسون النصوص التي يوهم ظاهرها تأييداً لعقيدتهم.

– أدلة تهافت مسلكهم:

1- إن الأخذ بظاهر النصوص يوجب تناقضاً، وتشبيهاً لله تعالى بالحوادث، وإليك أمثلة ذلك: في النصوص الموهمة بالجارحة “قال العلامة فخر الدين الرازي في كتابه أساس التقديس: وأعلم أن نصوص القرآن لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه:

الأول – أن ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} يقتضي أن يكون موسى عليه السلام مستقراً على تلك العين ملتصقاً بها مستعلياً عليها، وذلك لا يقوله عاقل.

والثاني – أن قوله تعالى: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} يقتضي أن تكون آلة تلك الصنعة الأعين.

والثالث – أن إثبات الأعين في الوجه الواحد قبيح فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل (أي يصرف النص عن ظاهره المحال في حقه تعالى). ويقال لهم إذا كنتم تُعْمِلون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا: أله عين أم أعين؟! كذلك ما تقولون في: قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بإفراد اليد، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بتثنيتها وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} بجمعها أله يد أم يدان أم له أيد؟! ويقال لهم أيضاً: إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها، فكيف توفقون بين هذه النصوص. في النصوص الموهمة للجهة:

– ورد من الآيات التي يوهم ظاهرها أنه سبحانه وتعالى في السماء. قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}. وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}. وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.

– ومن الآيات التي يوهم ظاهرها أنه سبحانه وتعالى في الأرض، قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْض}. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}. وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}. وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.

وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}.

أفتقولون: إنه في السماء حقيقة أم في الأرض حقيقة أم فيهما معاً حقيقة؟ وإذا كان في الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة الفوق؟ وإذا كان فيهما حقيقة فلماذا يقال: له جهة الفوق، ولا يقال له جهة التحت؟!

– ثم ألا تعلمون أن الجهات أمور نسبية، فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتاً بالنسبة إلى غيرنا؟ فأين تذهبون؟! وإن راموا تأويل القسم الثاني من الآيات حتى يوافق اعتقادهم الجهة لله سبحانه فيسألون: كيف تسوغون تأويل بعض النصوص مع ترك النصوص الأخرى على ظاهرها، مع أنها كلها متشابهة، ومستحيلة الظاهر في حقه سبحانه؟! أضف إلى ذلك أنه يلزمهم التأويل في كل النصوص، إن أولوا بعضها، والعجيب أنهم قد أتوا إلى النصوص التي تهدم معتقدهم فأولوها بما يتناسب مع أهوائهم، وإلى النصوص التي يوهم ظاهرها تأييداً لما انطووا عليه من اعتقاد الجهة لله سبحانه فتشبثوا بها، ولم ينظروا إلى النصوص المتشابهة كلها نظرة واحدة، كما عليه السلف والخلف رضي الله عنهم بحيث يعتقدون استحالة ظواهرها على الله تعالى، ويفوضون المعاني المرادة منها إلى الله تعالى كما عليه السلف، أو يؤولونها كما هي طريقة الخلف. والحق أنه ليس أحد من السلف فعل ما فعلوه، ولا أحد من الخلف ذهب إليه. كذلك وردت بعض الأحاديث الشريفة المتشابهة التي منها ما يوهم ظاهره بأنه سبحانه في السماء ومنها ما يوهم ظاهره أنه تعالى في الأرض، فيقال فيها كما سبق وبيناه في الآيات، وإليك بعضها:

– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَنْزِلُ رَبُنَا في ثُلْثِ اللَّيْلِ الأخيرْ.. الحديث” وقد سأل صلى الله عليه وسلم جارية مرة فقال لها: “أيْنَ الله؟ فَأشَارَت بأصْبُعِها السبّابَة إلى السّماء”.

– وقال صلى الله عليه وسلم: “أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ ربِهِ وَهْوَ سَاجِدٌ، فأكثِروا الدُّعَاءَ”. وقال أيضاً: “إنَّ اللهَ عز وجل قِبَلَ وَجْهِ أحَدِكُمْ إذا صَلَّى فَلاَ يَبْصُقْ بَيْنَ يَدَيْهِ”. ويقال لمعتقدي الجهة: كيف تأخذون بظاهر حديث النزول وجلي أن الليل مختلف في البلاد لاختلاف المشارق والمغارب، وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولاً حقيقياً في ثلث ليلهم الأخير، فمتى يستوي على عرشه حقيقة – كما يزعمون – لأن الأرض لا تخلو من ليل في وقت من الأوقات، وهذا لا يماري فيه إلا جهول، كذلك لو كان جل جلاله كما زعموا في جهة، فكيف يكون فيها ويكون بين المصلي وقبلته؟ وكم من المصلين في الزمن الواحد في أقطار الأرض مختلفين متباينين؟

– مناقضة: لربما جادل معتقدو الجهة بالباطل فقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم “إنَّ اللهَ عزِّ وَجلََّ قِبَلَ وَجْهِ أَحَدِكُمُ..” من الأحاديث المتشابهة. ويجاب: بأن حديث الجارية كذلك من الأحاديث المتشابهة.

ولئن قالوا: هو نص يجب تأويله. يجاب: بأنه لماذا يجب تأويله؟ ألأنه يعارض التنزيه؟ أم لأنه لا يعارض التشبيه؟ فإن وجب لأنه يوهم في ظاهره الحلول والاتحاد، وهما تشبيه له سبحانه بمخلوقاته، لزم أيضاً وجوب تأويل حديث الجارية لأنه يوهم بظاهره أنه سبحانه وتعالى في جهة، ولا يكون في جهة إلا الحادث. ولئن قالوا: حديث الجارية صحيح، وتؤيده النصوص القطعية. أجيبوا: بأن هذا الحديث صحيح أيضاً وتؤيده النصوص القطعية، فقد قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْض} وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وغيرها كثير. ولئن قالوا: هذا حديث ظني الثبوت. أجيبوا بأن حديث الجارية كذلك. أضف إلى ذلك أنه قد ورد في بعض الروايات أن هذه الجارية كانت خرساء، فأشارت إلى السماء. (فعن أَبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجاريةٍ سوداءَ أَعْجَمِيةٍ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةَ. فقال لها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ اللهُ؟ فأشَارَتْ بِرَأْسِها إلى السَّمَاءِ، أو بأصْبُعِهَا السّبَابةِ، فَقَالَ لها رَسُولُ الله: مَنْ أَنَا؟ فأشَارَتْ بأُصُبُعِها إلى رَسُول اللهِ وإلى السّمَاءِ أَي أَنْتَ رَسُولُ اللهِ قال: اعْتِقْها). كذلك سؤال “أين الله” لم يكن القاعدة المطردة لمعرفة إيمان من دخل في الإسلام، بدليل أنه عليه الصلاة والسلام كان يسأل: أتشهدين أن لا إله إلا الله، أو: من ربك؟ فقد ورد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: (أنَّ رجُلاً مِن الأَنْصَارِ جَاءَ إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بجَارِيَةٍ لَهُ سَوْدَاءَ فَقَالَ: يا رَسُول اللهِ، إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَإنْ كُنْتَ تَرَاهَا مُؤِمْنَةً أَعْتِقهْا. فقال لَهَا رَسُولُ اللهِ: أَتَشْهَديْنَ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ، ثُمّ قَالَ: تَشْهَدِيْنَ أَنّ مُحمّداً رَسُولُ الله؟ قالتْ نَعَمْ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أعْتِقْهَا) وعن الشريد بن سويد الثقفي قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: إنَّ أمّيْ أَوَصت أَنْ أَعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤِمْنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نَوْبِيّةً، أَفَأعْتِقُهَا؟ قالَ: ادعهَا. فَدَعَوْتُهَا فَجَاءَتْ، فَقالَ: مَنْ رَبّكِ؟ قَالَت: اللهُ. قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللهِ. قَالَ: أَعْتِقهَا فَإنَّها مُؤِمْنَةٌ. وقد قال الإمام النووي في شرحه حديث الجارية:.. “لقد كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه انحصر في السماء، كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين، أو هي من عبدة الأوثان التي بين أيديهم. فلما قالت: في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان”.

وقال العلامة الكوثري عند قوله صلى الله عليه وسلم للجارية: “أين الله”.. على أن “أين” تكون للسؤال عن المكان، وللسؤال عن المكانة. وقال أبو بكر العربي: المراد بسؤال بـ “أين” عنه تعالى: “المكانة” فإن المكان يستحيل عليه”.

– والخلاصة أن مَنْ لم يصرف لفظ المتشابه – آية كان أو حديثاً – عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال، فقد ضل، ومن فسره تفسيراً بعيداً عن الحجة والبرهان قائماً على الزيغ والبهتان فقد ضل، كالباطنية. وكل هؤلاء يقال فيهم: إنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، أما من يصرف المتشابه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلباً للفتنة ولكن منعاً لها، وتثبيتاً للناس على المعروف من دينهم، ورداً لهم إلى محكمات الكتاب القائمة، فأولئك هم هادون مهديون حقاً، وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها، وأئمتها وعلماؤها، وهاؤم بعض النصوص في نفي الجهة عنه سبحانه، قال ابن اللبان:… لما ادعى فرعون الربوبية واعتقد الجهة لله تعالى قال: “يا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحاً لَعَلّي أبْلُغُ الأسبْابَ، أسبابَ السَّمَاواتِ فأطّلعَ إلى إلَهِ مُوسىَ”. فرد الله تعالى عليه، وسخف رأيه بقوله: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ} أي عدل عن سبيل القرب والدنو من إله موسى فإنه سبحانه منزه عن علو المكان. وقول موسى صلى الله عليه وسلم: “وَعَجِلتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى”. مع أنه لم يبنِ له صرحاً، ولا احتاج في الدنو والقرب إلى صعود السماء. وكذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث جاء ربه بقلب سليم، فكان مجيئه إليه سبحانه، ووصوله إنما بسلامة القلب، لا بالتسور والصعود.

وقال الإمام الفخر الرازي: المشبهة احتجوا بقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}. في إثبات الجهة. والجواب هو أن المراد الرفع إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله تعالى كقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وقد كانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة المنورة. وقد قال إبراهيم عليه السلام: “إني ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهدْيِنِ”. قال العلامة النسفي: معنى قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}. أي إلى حيث لا حكم فيه لغير الله تعالى: قال ابن حجر قال الكرماني: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}. ظاهره غير مراد، إذ أن الله تعالى منزه عن الحلول في المكان لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات.

وقال البيهقي: وليس معنى قول المسلمين “إن الله استوى على العرش” أنه مماس له، أو متمكن عليه، أو متحيز في جهة من جهاته، لكنه بائن من خلقه. وقد أوضح معنى البينونة هذه فقال: وأنه فوق الأشياء بائن منها، بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها، ولا يمسها، ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة، تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً.

وقال الإمام الرازي:

1- لو وجب اختصاصه تعالى بالجهة لكان محتاجاً إليها، وذلك يقدح في كونه غنياً على الإطلاق.

2- قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. وقد سئل رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. ولو كان سبحانه في السماء أو في العرش لما صح القول بأنه تعالى قريب من عباده.

3- قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}. ظاهره يقتضي فناء العرش، وفناء جميع الأحياز والجهات، وحينئذ يبقى الحق سبحانه وتعالى منزهاً عن الحيز والجهة، وورد في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: “كانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شيئاً غيرُهُ”. وإذا ثبت ذلك امتنع أن يكون الآن في جهة، وإلا لزم وقوع التغير في الذات. 4- ولو كان سبحانه متحيزاً لكان متناهياً، وكل متناه ممكن، وكل ممكن حادث، فلو كان متحيزاً لكان محدثاً، وهو باطل، وقال العلامة الشيخ أحمد فهمي أبو سنة عند كلامه حول معرفة أسباب النزول: إن معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها عند نزول القرآن ضروري، لأن كثيراً من الألفاظ، إذا أريد تفسيرها بمجرد اللغة من غير رجوع إلى هذه العادات وقع المفسر في الغلط والجهل.. ومن ذلك قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ}. وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}. وأشباه ذلك إنما جرى على معتادهم من اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلاهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض من الأوثان، فلا يكون فيه دليل على إثبات الجهة لله سبحانه، ومن ذلك قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّالشِّعْرَى} فعين هذا الكوكب مع أنه رب الكواكب كلها لأن خزاعة من العرب قد عبدته.

– وقال القرطبي في تفسيره… ثم إن إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى وكذلك العرش. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقد كفر، لأن هذا يوهم أن للحق سبحانه مكاناً، ومن توهم أن للحق مكاناً فهو مشبه.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*