التعفف عن المسألة

التعفف عن المسألة

التعفف عن المسألة

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:

 

التعفف عن المسألة هو التنزه والإبتعاد عن سؤال العطاء، أو طلب مال الزكاة، أو صدقة التطوع، وفي الحديث: «ومن يستغن؛ يغنه الله، ومن يستعفف؛ يعفه الله»، وحديث: «وازهد فيما في أيدي الناس؛ يحبك الناس»، وفي الحديث: «إنما الصدقة أوساخ الناس»، ولا تحل المسألة إلا للحاجة. والذي يتكفف الناس يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم، وفي الحديث: «ما جاءكم بغير سؤال؛ فخذوه». قال الله تعالى: ﴿ومن كان غنيا فليستعفف﴾.

وقد تكون المسألة لظروف طارئة، كما في الغارم فيعطى من مال الزكاة ما يفي بغرمه، وهو أحد الأصناف الثمانية في مصارف الزكاة. وقد تكون المسألة عادة متكررة، وقد يكون السائل محتاجا، أو مستكثرا، وقد يكون المحتاج للعطاء قانعا ومتعففا وزاهدا فيما في أيدي الناس، من الذين لا يسئلون الناس إلحافا، وفي الحديث: «عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله  قال: “قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه”»[1] وجاء في الصحيحين عمن يمتهن السؤال: «عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وما في وجهه مزعة لحم”»[2]

وقد كرم الله تعالى الإنسان، وفي سؤال المخلوق مذلة، وعلى الإنسان أن يطلب من الله أن يعطيه من فضله، قال الله تعالى: ﴿واسئلوا الله من فضله﴾. والفضل لله يؤتيه من يشاء، وقد أمر الله عباده أن يسئلوه من فضله؛ فالطب من الله عبادة، وفضله واسع، وعطاؤه لا ينفد، كما أمر عباده بالسعي في الأرض، طلبا للرزق، متوكلين عليه في مسعاهم. فمن كان فقيرا؛ حاول أن يوجد لنفسه مصدرا للرزق، ولو أن يحتطب، بدلا من أن يكون عالة يتكفف الناس، أعطوه أو منعوه. وإذا لم يتمكن من ذلك؛ فله أن يأخذ ما يعينه على إيجاد مصدر يكتسب منه.

** حكم المسألة:

المسألة بمعنى: طلب المال من الناس، وهو في الشرع الإسلامي: غير جائز إلا للحاجة. فإن جائه شيء بغير سؤال ولا استشراف نفس؛ أخذه إن كان من ذوي الاستحقاق، أما إن طلب من الناس أن يعطوه؛ فلا يحل إلا في حالات بينها الحديث: «عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله  أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، قال: ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فيقولون: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا، يأكلها صاحبها سحتا».[3]

** حديث حكيم ابن حزام:

ثبت في الصحيحين حديث يتضمن بيان حكم الشرع في سؤال المال وأخذه، وهو: «عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله  فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: “يا حكيم! إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى”. قال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له من هذا الفيئ فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي».[4]

ومعنى الحديث: السؤال المتكرر للمال، في زمن التشريع، قبل معرفة السائل بالحكم، ثم بينت الأحكام بأن المال نعمة وخير، ومن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس؛ لم يكن فيه البركة، وكلما أعطي؛ طلب المزيد، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، ثم بين أن اليد العليا، أي: (المنفق): خير من اليد السفلى أي: (الآخذ). وبسبب ذلك امتنع السائل عن مد يده، حتى مات.

مما قيل في سؤال الناس:

لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

 

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب

 

 

صدقة السر

صدقة السر هي: ما يفعل من الخير، في الخفاء، والمقصود إخفاء التصدق بالمال، وعدم إعلانه عند التصدق، وقد ورد في ذلك قول الله تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [2:271].

والصدقة تشمل: صدقة الفرض وصدقة النفل.

ومعنى الآية: أن إظهار الصدقة أفضل من إخفائها، وقد ذكر أكثر العلماء أن هذا محمول على: (إيتاء الزكاة)، أي: التصدق بالصدقة الواجبة، فإبداؤها أي: إظهارها وأداؤها علنا؛ أفضل من أدائها سرا؛ لأنه إقامة فرض من فروض الدين، ولئلا يتهم المزكي بمنع الزكاة، وربما يطالب بها بعد إخراجها سرا، كما أن في إعلانه وإظهاره للزكاة ظهور برآءة الذمة، ومجانبة الوقوع في الشبهة، وفي الحديث: «فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرء لدينه وعرضه». وإخفاء الصدقة خير من إعلانها، وهو محمول على صدقة التطوع، وذلك أن فعل الخير في الخفاء من علامات الإخلاص في العمل، ويكون أقرب للقبول عند الله، والإسرار بالعمل الصالح أفضل من العلانية، من حيث كونه عبادة فيما بين العبد وربه، لكن الجهر أفضل من فيما يتعلق بشعائر الدين، من حيث أنه يطلب الجهر بالأذان مثلا، وبإقامة الجماعة، وتأدية الفرض.

** تعريف الصدقة:

الصدقة في اللغة: ما يتصدق به من مال، والصدقة المفروضة هي: (الزكاة)، وغير المفروضة هي: (صدقة التطوع)، وتكون الصدقة بغير المال، وفي الحديث: «عن أبي ذر أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا».[5]

والصدقة بالمعنى الشرعي هي: “المال المؤدى”، وتشمل: الزكاة أي: الواجبة، وصدقة التطوع

 

** حكم إخفاء الصدقة:

قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [2:271]

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿إن تبدوا الصدقات﴾ إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه “فنعما هي” يقول: فنعم الشيء هي ﴿وإن تخفوها﴾ يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها ﴿وتؤتوها الفقراء﴾ يعني: وتعطوها الفقراء في السر ﴿فهو خير لكم﴾ يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها، وذلك في صدقة التطوع.

كما ذكر الطبري بسنده عن قتادة: «كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار».

«عن معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم﴾، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها». وروى بسنده عن سفيان قال: يقول: “هو سوى الزكاة”. وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله: ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي﴾: إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم، قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع فإخفاؤه أفضل من علانيته.

وعن يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي﴾: في الصدقة على اليهود والنصارى.

«كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية يعني الزكاة».

«قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله: ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي﴾ (شيئا دون شيء)، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها».

قال ابن عباس في الآية: «جعل الله تعالى صدقة السر في التطوع تفضل صدقة العلانية بسبعين ضعفا، وجعل صدقة العلانية في الفرض تفضل صدقة السر بخمسة وعشرين ضعفا».

وإظهار صدقة الفرض أفضل، وإخفاء صدقة التطوع أفضل، كما صرح القرآن بذلك، لكن هذا محمول على الغالب، فقد يختلف الحكم باختلاف الأحوال، وليس في تفضيل السر أو الإعلان بالصدقة حديث صحيح، يعول عليه، ولكنه الإجماع الثابت.

«والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها والمعطى إياها، والناس الشاهدين لها. وأما المعطي فله فائدة إظهار السنة وثواب القدرة، وآفتها الرياء والمن والأذى، وأما المعطى إياها فإن السر أسلم له من احتقار الناس له أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف. وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستثناء؛ ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة لكن هذا اليوم قليل».[6]

 

** فضل صدقة السر:

للصدقة في السر فضيلة، للمتصدق في الخفاء، وقد ورد في الحديث: «سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله». ومن هؤلاء السبعة: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه». الحديث: «عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ بعبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».

كما أن في إخفاء الصدقة خير للمتصدق، لقول الله تعالى: ﴿وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم﴾. وفي الحديث: «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء».

** هدايا العمال:

هدايا العمال هو ما يهدى لعامل الزكاة ممن يتولى عمل أخذ الزكاة منهم، أو من يدفعها إليهم، وهذه الهدايا محرم عليه أخذها، وحكمها حكم أخذ القاضي الهدية ممن يتولى فصل القضاء بينهم، من حيث أنه لا يجوز له أخذها بكل الأحوال، كما لا يجوز للموظف أخذ الرشوة. ولا يجوز أيضا أخذ العامل شيئا من مال الزكاة؛ لأن هذا يكون غلولا، وفي القرآن: ﴿ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة﴾. وقد ورد في الشرع التهديد والوعيد على أخذ عامل الزكاة للهدايا، ففي الحديث:«عن الزهري أنه سمع عروة أخبرنا أبو حميد الساعدي قال استعمل النبي  رجلا من بني أسد يقال له ابن الأتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي  على المنبر. قال سفيان أيضا: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ألا هل بلغت ثلاثا. قال سفيان قصه علينا الزهري وزاد هشام عن أبيه عن أبي حميد قال سمع أذناي وأبصرته عيني وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي، ولم يقل الزهري سمع أذني خوار صوت والجؤار من تجأرون كصوت البقرة.»[7] والمعنى: أن عامل الزكاة لا يحل له أخذ الهدية؛ لأنه إذا لم يكن عاملا على الزكاة فإنه لن يحصل عليها، فهي لا تخلو من مجاملة.

 

المراجع:

  • رواه مسلم.
  • متفق عليه
  1. رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة، رقم: (1044). وشرح النووي على مسلم ص110 دار الخير 1416 هـ/ 1996 م
  2. شرح النووي على كتاب صحيح مسلم، كتاب الزكاة، حديث رقم: (1006)، ص: (76).
  • أحكام القرآن لابن العربي
  1. شرح صحيح مسلم للنووي، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم: (1031)، ص: (100)
  2. فتح الباري، كتاب الأحكام، (باب هدايا العمال)، رقم: (6753)، ص176 إلى 179. دار الريان للتراث، 1407 هـ/ 1986 م

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*