جذور التصوف الإسلامي : توضحه نماذج من حياة النبي (صلى الله عليه وسلم ) وآله وأصحابه . ومراحل تطوره

جذور التصوف الإسلامي : توضحه نماذج من حياة النبي (صلى الله عليه وسلم ) وآله وأصحابه . ومراحل تطوره

” جذور التصوف الإسلامي ”

جذور التصوف الإسلامي : توضحه نماذج من حياة النبي (صلى الله عليه وسلم ) وآله وأصحابه .

نماذج للتصوف الإسلامي في حياة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله وأصحابه الكرام :
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) نموذجاً فريداً في طهارة النفس والروح ، وكان نموذجاً خاصاً راقياً في الزهد والورع ، ويكفيه صلى الله عليه وسلم أن أدبه ربه فأحسن تأديبه
قال (صلى الله عليه وسلم) : ” أدبني ربي فأحسن تأديبي ” (أورده السيوطي في الجامع الصغير )

ويكفيه شرفاً حسن خلقه ، وطهارة سريرته ، وهو ما وصفته به عائشة زوجته رضوان الله عليها حينما سُئِلَتْ عن خُلُقِه (صلى الله عليه وسلم) قالت : ” كان خلقه القرآن ” (أخرجه الامام أحمد في مسنده ، ج 6 / 91 ، حديث رقم :24456 مؤسسة قرطبة ، القاهرة .)
وفي رواية أخرى قالت : ” كان قرآناً يمشي على الأرض ” وليس هذا فحسب فإن المتصفح لسيرته (صلى الله عليه وسلم) يجد فيها العديد والعديد من صور الزهد والورع ، والتي هي من مقومات التصوف ولوازمه .

* أذكر منها على سبيل المثال:-

(1) أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان دائم الصمت كثير الذكر ، دائم الفكر ، قليل الضحك إلا عند الضرورة ، كان يبتسم فقط .
وكان مستغرقاً في نشر الدعوة والمجاهدة نهاراً ، ومستغرقاً في العبادة ليلاً ، فنراه قائماً بين يديّ ربه مناجياً ، وراكعاً متوسلاً ، وساجداً باكياً ، وكان يطيل السجود والتضرع والخضوع والخشوع بين يدي مولاه حتى ظنت زوجته السيدة عائشة (رضوان الله عليها ) أنه قد قبض – أي مات – وكان يقوم ” الليل إلا قليلاً ” حتى تتفتر قدماه .
* ولما سألته زوجه السيدة عائشة في حديث صحيح ” لما تفعل كل هذا يا رسول الله وقد غفر اللهُ لك ما تَقدّم من ذنبك وما تأخر .
وفي الحديث الشريف :-
عن عائشة رضي الله عنها : ” أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له لما تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً “( أورده المنذري في الترغيب والترهيب بلفظه وعزاه إلى الإمامين البخاري ومسلم في صحيحهما ، وصححه المنذري ( 1/ 151 ، رقم 621 ) )

أي أن غفران الذنوب واصطفاء الله له (صلى الله عليه وسلم) ، نعمة تستحق مزيد الشكر ، ومن صور الشكر لله الصلاة والدعاء قال تعالى : ” ولئن شكرتم لأزيدنكم…” ( سورة إبراهيم – آية 7 ).
وكان (صلى الله عليه وسلم ) يواصل الصيام : وحينما قلده بعض الصحابة رضوان الله عليهم – نهاهم عن ذلك قائلاً : ” إياكم والوصال ، قيل‏:‏ إنك تواصل‏؟‏ قال‏:‏ إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون‏.‏ ” (أورده السيوطي في الجامع الصغير ، وصححه البخاري ومسلم ( ج 10/ ص 393 ، رقم 4446 ) )

عن أبي هريرة قال : كان يمر بآل رسول الله صلى عليه وسلم هلال ثم هلال لا يوقد في شيء من بيوتهم النار ، لا لخبز ولا لطبيخ . قالوا : بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة ؟ قال : الأسودين : التمر والماء ”
وكان لهم جيران من الأنصار لهم منائح يرسلون إليهم شيئاً من لبن . ” ( رواه أحمد بإسناد حسن ، ورواه البزار كذلك بتحقيق الأرنؤوط ( 2/ 404 ، رقم 9238 ) )

وكان (صلى الله عليه وسلم) عنده ملذات الطعام فيتصدق بها على الفقراء والمساكين ولا يبقى في بيته منها شيئاً ، بل والأكثر من ذلك .
أنه كان يمر عليه (صلى الله عليه وسلم ) الشهر والشهران لا يوقد في بيته (صلى الله عليه وسلم ) نار ” دلالة على عدم طهي أي طعام ؛ بل كان يعيش وأهله على الأسودين ” التمر والماء ” أو الخل والزيت ، وقديد الخبز وينام على خشن الفراش ويلبس خشن الثياب ، فتراه (صلى الله عليه وسلم) قد ملك الدنيا ولكنه جعلها في يده ليبذلها لغيره لهوانها عليه ولم يجعل الدنيا في قلبه لتملكه وتستعبده ،
( ولم يكتفي (صلى الله عليه وسلم ) بتطهير نفسه فحسب بل أوصى غيره من أهل بيته وأصحابه ) بذلك ومن ذلك ما يلي :-
1- وصيته لابنته ” فاطمة ” رضوان الله عليه :– جاءت السيدة فاطمة الزهراء ( رضوان الله عليها ) تشكو لأبيها الرسول (صلى الله عليه وسلم ) قسوة المعيشة وأنها تحتاج لخادمة تعينها على أعبائها الشاقة ، وحفزها لطلبها هذا علمها بوصول الغنائم لإحدى الفتوحات الإسلامية للرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وكانت الغنائم تحوي أموال وخيول وإبل ، وأسرى عبيد ؛ فطلبت منه أن يعطيها من سهمه – أي نصيبه – في الغنائم ، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) أجابها بأن نصيبه سيوزعه على فقراء المسلمين ، ووجهها بحكمة إلى ما فيه صلاحُ دينها ودنياها قائلاً لها :-
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم )” ألا أدلك على ما هو خيرٌ لك من خادم تسبحين ثلاثاً وثلاثين وتحمدين ثلاثاً وثلاثين وتكبرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك ” (أخرجه مسلم في صحيحه بلفظه ، كتاب الذكر . باب التسبيح أول النهار وعند النوم ( 8/ 84 ، رقم 7094 )

فنراه (صلى الله عليه وسلم) قد وجهها بحكمة إلى الزهد والورع ، وعدم الركون إلى الدنيا ومتاعها ، والاشتغال بالذكر فإنه يعطيها قوة روحية وجسدية على القيام بجميع أعباء الحياة ومهماتها .

(2) وصيته لزوجاته رضوان الله عليهن :-
لما علمن – رضوان الله عليهن بفتح ” بلاد كسرى ” طلبن من الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يُغدق عليهن مما فتح الله عليه لينعمن بحياة رغدة فيها الحلي من الذهب والأحجار الكريمة الخاصة بقصر كسرى ، والتي كانت تملأ الأسماع فتنة عن رونقها وجمال شكلها ، وأيضاً أن يلبسن أنعم الثياب ، وأن يخصهن بالخدم ….. إلى غير ذلك من المطالب التي فيها ركون إلى الدنيا ومتعها لينعموا كسائر المسلمين بما مَنَّ اللهُ على رسوله وعلى المسلمين من خير وفير .

* ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رفض منهن هذا السلوك وطلب منهن عدم الافتتان بمباهج الدنيا وأنها زائلة ، وإن أصروا على ذلك فسوف يفارقهن ويمتعهن بما يطلبن ، وإن آثرنَ ‘رضاء الله ورسوله على متطلبات النفس فإن الله أعدّ لهن أجراً عظيماً ونعيماً مقيماً في الجنة عوضاً عن الدنيا الذائلة.

قال تعالى : ” يا أيها النبيُّ قُلْ لأزواجك إن كنتنَّ تُرِدنَ الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعدَّ للمحسنات منكن أجراً عظيماً ” . ( سورة الأحزاب . الآيات 28، 29)

من هنا نرى زهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الدنيا وقد أوصى بناته ونساءه بالزهد فيها والطمع فقط في الآخرة وما أعد الله لهم من نعيم وهنئ عيش أبدي ، وعدم التعلق بالدنيا الفانية .

(3) نماذج من حياة الصحابة : –
لقد أوصى الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بما أوصى به نفسه وأهل بيته بالزهد في الدنيا وعدم التعلق بها بوصايا كثيرة
أذكر منها ما يلي :-
قال (صلى الله عليه وسلم) : – ” كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ” (أخرجه البخاري في صحيحه (5 / 2358 ، رقم 6053 ) ، وأخرجه ابن حبان ( 2 / 471 ، رقم 698 ) ، والبيهقي ( 3 / 369 ، رقم 6304 )
وقال (صلى الله عليه وسلم) :- ” لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ” ( أورده السيوطي في الجامع الصغير مع فيض القدير ( 7 / 22 ، رقم 2320 )
إلى غير ذلك من وصاياه (صلى الله عليه وسلم) ، والتي عمل بها الصحابة .
فنجد سيدنا “عثمان بن عفان” يتاجر بأمواله مع الله ، فلم يفتنه المال ليدخره ويكنزه ، ولكنه جهز به الجيش الإسلامي في “غزوة مؤتة” التي اشتد فيها الفقر والحر بالمسلمين .
وأيضاً سيدنا أبو بكر : الذي كان حاكماً للمسلمين وخليفة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وكان تحت يديه خزائن الأرض فلم تتطلع نفسه إليها بل زهد في الدنيا وبذلها لغيره ، حتى أنه حين حضرته وفاته لم يَجدُ في بيته شيء من متع الدنيا ولا من أموال المسلمين التي كان أميناً عليها . (جلال الدين السيوطي . تاريخ الخلفاء . تحقيق جمال محمود مصطفى ، دار الفجر للتراث ، القاهرة ، ط 2 ، 2010 م ، ص 62 )

حتى أن “عمر بن الخطاب” بكى لهذا الموقف قائلاً : رحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت من بعدك ، أي شققت علىّ لأني سأتولى الخلافة بعدك والله يعينني على تحمل الأمانة ، وأن أخرج من الدنيا بريئاً من أموال المسلمين ومن فتنة الدنيا كما (فعلت يا أبا بكر ” .( أخرجه الطبراني في مسنده عن الحسن بن علي بن أبي طالب ، انظر : جلال الدين السيوطي . تاريخ الخلفاء ، مرجع سابق ، ص 63 ).
3)
*وقد كان ! فنرى ( عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ) ورعاً زاهداً في الدنيا يرفض الحراسة ويرفض أن ينام في القصور الفارهة.
وتروي السيرة ما قاله عنه ( الرسول الرومي ) الذي كان يحمل له رسالة من الملك فلما سئل عن أمير المؤمنين ( عمرو بن الخطاب ) ؟ فقالوا له :هو ذاك.
فوجده الرجل يرتدي ثياب قديمة مرقعة ، وينام تحت ظل شجرة بدون حراسة ، فقال متعجباً ! أهذا أميركم ؟ قالوا : نعم . قال: حكمت فعدلت فنمت مطمئناً يا عمر . وغير ذلك كثير .

خلاصة القول :-
كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حريصاً هو وأله وأصحابه على ترك الدنيا بمفاتنها ولذاتها ، ومغرياتها التي ما تلبث إلا أن تزول ، أو يزول عنها الإنسان بموته ، لذا نجدهم حريصين على أن يعمروا حياتهم بالأعمال الصالحة التي تقربهم من ربهم ، والتي يصلحون بها أمور دينهم ودنياهم ، وكانوا يملؤن حياتهم بالذكر والشكر والتوسل ، والدعاء وكثرة الصيام ، وطول القيام وغير ذلك من العبادات التي كانت تقربهم من الله ليخلصوا الروح من سجن الجسد وملذاته ، لتسبح أرواحهم في ملكوت المحبة الإلهية ، لتنعم بالسعادة الأبدية التي قال عنها بعض العارفين : ” لو عَلِمَ الملوك ما نحنُ فيه من السعادة والنعيم لقاتلونا عليها بالسيوف ”

أخلص مما سبق إلى : –
أن التصوف المعتدل لم يكن وليد العصر الحديث ولا العصر السلجوقي ولا الثقافة التركية ، ولا البوذية ولا غيرها من الثقافات والديانات ، ولكن الذي وضع أسس التصوف السُني المعتدل ( هو الإسلام ) والذي يصل بالإنسان إلى السعادة في الدنيا بتحرير الروح ورقيها وسعادتها بنعمة القرب من الله ، ومعرفته والفناء في محبته .
وأيضاً يصل بالإنسان للسعادة في الآخرة وهاتين الخصلتين لا تتوفران إلا في التصوف الإسلامي فحسب ولكنه تطور مع مرور العصور .

” مراحل تطور التصوف الإسلامي ”

مراحل تطور التصوف الإسلامي :-
لقد سبقت الإشارة إلى أن نشأة التصوف السٌني المعتدل نبعت أساساً من ” القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة “، وإرشادات الإسلام القويمة المعتدلة المتسمة بالوسطية والموازنة بين كل الحقوق والواجبات ، وأوردت بعضاً من نماذج التصوف الإسلامي الرشيد في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وآله وأصحابه . رضوان الله عليهم جميعاً
مسيرة تطور التصوف الإسلامي عبر العصور المختلفة .
ومن الجدير بالذكر : أن أشير إلى مجموعة من المتصوفة والزهاد كانوا يعيشون على عصر النبوة وفاتني أن أشير إليهم وهم ” أهل الصفة ” الذين كانوا يعيشون في المدينة المنورة ، وكان لهم موضعاً خاصاً مظللاً في المسجد النبوي ، وكان هذا الموضع يأوي أليه المساكين وينزل إليه الغرباء ، وكان مقراً لزهاد الصوفية.
والذي قال عنهم أبو هريرة واصفاً لهم :” أهل الصفة أضياف الإسلام لا ينزلون أضياف على أهل ولا احدٍ” .
وأهل الصفة صنفين :
الصنف الأول : صنفُُ قادر على العمل والكسب وكانوا يشتغلون بالتجارة وبشتى صنوف الحرف تكسباً لقوت معاشهم نهاراً وكانوا ينقطعون للعبادة والذكر ليلاً .
ولم ينكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عليهم مسلكهم هذا وكانوا حريصين على حضور مجلس العلم التي كانت تعقد في المسجد النبوي من قِبَل ِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وكانوا يشتغلون بمدارسة القرآن الكريم ورواية الحديث النبوي والتفقه في أمور دينهم ودنياهم ، فكان زهدهم مبني على العلم الديني ونابعُُ من شدة ورعهم وخشيتهم لله .
والصنف الثاني منهم : فهم المساكين الذين لا يجدون قوت يومهم ، والفقراء وعابري الطريق ، والغرباء عن أهل المدينة .
فكانوا يعيشون على الصدقة التي كان يرسل بها رسول الله وأصحابه إليهم .
وفي البخاري من حديث أبو هريرة ( رضي الله عنهما ) :-
أنه قال ” رأيت سبعين رجلاً من أهل الصفة ما على أحدهما رداء ” أي أن كل واحدٍ منهم لا يملك ثوب آخر غير الذي يرتديه .
” وقد استشهد منهم في غزوة بئر معونة سنة” 3 هـ 70 رجلاً ”
وقيل عن سبب تسميتهم بأهل الصفة :-
لأنهم خلاصة أقوامهم – أي صفوة أقوامهم – أو نسبة للباسهم المصنوع من الصوف ” (القشيري . الرسالة القشيرية . تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف ، دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1968 ، ج1 ، ص 53)
وألاحظ هنا : أن التصوف عُرِفَ في بداية الأمر كمسلك وطريق يتبعه من يريد الخلاص من أدران النفس ، وسلوك يصل به السالك إلى نقاء الروح وصفائها .
” وترجعُ بداية تكوين الفكر الصوفي: إلى القرون الثلاث الأولى من الهجرة .
ففي القرن الأول الهجري : ظهر التصوف كحركة أساس دعائمها الزهد والعزلة ، وكان اكبر مؤثر فيها ، والمتحدث باسم تلك ” الحركة الزاهدة ” هو الإمام حسن البصري ( وفاة في 110 هـ ) والتي لا تقل شهرته في علم التصوف عن شهرته في علم الكلام كما انه يعد احد مؤسسي مذهب المعتزلة .
وكان الحسن البصري يقوم بإلقاء الدروس في المجالس العلمية والتي كان يحضرها مختلف طبقات المجتمع من أدنى طبقة إلى طبقة الحكام والأمراء والوزراء .
وقد كان عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين حريصاً كل الحرص على حضور كل الجلسات العلمية ، والتي كانت يقوم بإلقائها الحسن البصري لمريديه من المتصوفة ، وظل عمر بن عبد العزيز يحضر الجلسات العلمية مع المتصوفة طوال فترة حياته .

وكانت المتصوفة في بادئ الأمر ينقسمون إلى صنفين :-
الصنف الأول منهم :-
” وهم قلة كانوا يفضلون حياة الانزواء والاعتكاف في الصحاري والمغارات ، ويعيشون حياة العزلة والاعتكاف عن المجتمع ، تاركين خلفهم الدنيا وملذاتهم .
شأنهم شأن رهبان النصارى الذين كانوا يعيشون في النواحي الشرقية للبحر الأبيض المتوسط . ”
وتصور ” إحدى النساء الزاهدات السوريات ” أوضاع هؤلاء المتصوفة بقولها:-
إن غاية هؤلاء هي الاتحاد مع الحق فغايتهم العليا هي الاتجاه إلى الحق وهم عقدوا مواثيقهم مع الله .
يا لها من حادثة عظيمة يا لها من شرفٍ كبير من اجل الذهاب إلى الفناء
لم يتنازعوا من اجل الحصول على منح الدنيا
فهم لم يطلبوا الشهرة ولا الولد ولا الغنى ولا الزينة تركوا كل حرصهم وشهوتهم فليس عندهم خزائن ولا أموال
ولم يطلبوا حياة المدينة المليئة بالسفاهة والمتع فهم يبحثون عن الغاية القوية (اللانهاية ) لم تطأ أقدامهم الأماكن التي ذهب إليها مسافروا الصحراء ولم يذهبوا إلى الأنهار والجداول
فهم يجتمعون على زري الجبال التي تشبه الأبراج
وهذا المسلك يذمه الإسلام ولا يرضى عنه لان الإسلام دين عبادة وعمل قال تعالى ” وَالْعَصْرِ إنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ” (سورة العصر . أية 1- 3 ).
قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ إِلَى النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله ) فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عُثْمَانَ يَصُومُ النَّهَارَ وَ يَقُومُ اللَّيْلَ .
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) مُغْضَباً يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي .
فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) .
فَقَالَ لَهُ : يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ ، وَ لَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ ، أَصُومُ وَ أُصَلِّي وَ أَلْمِسُ أَهْلِي ، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي ، وَ مِنْ سُنَّتِيَ النِّكَاحُ ”
(الكافي: 5 / 494 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران ).

أما الصنف الثاني من المتصوفة :-
وهم يمثلوا الأغلبية العظمى منهم فهم متداخلون في المجتمع ، فنجد كل واحد منهم يمتهن صنعة أو حرفة يتعيش منها.
وكانوا يعيشون في غرفٍ بسيطة للغاية يقضون ليلهم ونهارهم مشتغلون بالعبادة.
وهؤلاء هم الفئة الأفضل لأنهم ساروا على النهج الإسلامي القويم الذي مزج بين العبادة والعمل لان العمل عبادة ولان الله خلقنا من اجل العبادة وإعمار الأرض بالسعي والعمل الدءوب لتتحقق الغاية المرجوة من خلق الإنسان .

* فنجد أن حركة الزهد قد انتشرت من المدينة المنورة إلى الكوفة والبصرة والى الولايات ، والمدن البعيدة والجديدة التي تأسست حديثاً مثل بغداد وخراسان ، والسند .
وبذلك يكون قد تشكل مركزين كبيرين للتصوف في العالم الإسلامي :
الأول : في المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية .
والثاني : في إيران أي في الناحية الشمالية الشرقية للعالم الإسلامي ، وكان ” إبراهيم بن آدهم ” هو زعيم حركة التصوف في إيران ، ترك إبراهيم بن أدهم العرش ( حيث كان سلطاناً على بلخ ) مستجيباً للدعوة الإلهية الروحانية وهاجر إلى سوريا . واستشهد ( عام 160 هـ ) في الحرب التي كانت موجهة ضد الدولة البيزنطية .
وسفيان الثوري : هو سفيان الثوري الكوفي العلامة المحدث أحد المعاصرين لإبراهيم ابن أدهم ، ومؤسس مذهب فقهي لم يدم طويلاً .
وهناك معاصر صوفي آخر لإبراهيم بن أدهم وهو هذه المرة سيدة اشتهرت بزهدها وورعها ، وهي رابعة العدوية ( وفاه 185هـ ) عاشت رابعة العدوية حياتها كلها بكراً ، وهي أول من علَّمْ أسس العشق الإلهي .
قالت رابعة العدوية:-
أستطيع أن أحبك بأحد طريقين
الطريق المار مني ، والطريق المار منك
لو تزيل الستار فهذا أطهر عشق
فليت الذي بيني وبينك عامرُ وبيني وبين العالمين خَرَابُ
وهناك رواية أخرى:
احبك حبين حب الهوى و حبا لأنك أهل لذاك
فأما الذى هو حب الهوى فشغلى بذكرك عما سواك
وأما الذى انت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراك
إلى أن جاء عهد السلاجقة :-
فيرجع تاريخ تشكيل الطرق الصوفية باعتبار أنها مدارس ومكاتب صوفية سنجد أن عهد السلاجقة هو البداية الفعلية لذلك برغم وجود الطريقة الكزارونية قبل عهد السلاجقة ، ” والطريقة النقشبندية ” التي تأسست بعد عهد السلاجقة بفترة بسيطة ، إلا أن عهد السلاجقة هو العهد الفعلي لتأسيس الطرق الصوفية .
وعهد السلاجقة يعد فترة هامة في تاريخ الطرق الصوفية ، لأنه كان شاهداً على كارثتين كبيرتين ألمتا بالعالم الإسلامي ، هما ” هجوم المغول من الشرق ، والحملات الصليبية من الغرب ” وقد عاش الأهالي فترة من الزمن عصيبة جداً بين تلك النزعات والحروب غير الآمنة التي ساقت الناس لحالة من اليأس وعدم الطمأنينة وبطبيعة الحال كان لجوء هؤلاء إلى الناس إلى التكايا الصوفية الملاذ الوحيد والآمن لهم .

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*