سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية

سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية

سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية:

” الخوف والانكسار”

في القرآن الكريم:

ورد لفظ الخوف في القرآن في نحو خمسة وستين موضعاً، وجاء بصيغ مختلفة؛ فمرة يرد بصيغة الاسم كقوله تعالى:﴿ فمن تبع هداي فلا خوف عليهم﴾[1] ومرة يرد بصيغة فعل أمر كقوله تعالى: ﴿ وخافون إن كنتم مؤمنين﴾[2] كما يأتي بصيغة الفعل المضارع كقوله تعالى: ﴿ ليعلم الله من يخافه بالغيب ﴾[3] وقد يرد هذا اللفظ مضادا للأمن في مثل قوله سبحانه: ﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه﴾[4].

في الحديث النبوي:

ورد لفظ الخوف في العديد من الأحاديث النبوية وبعدة معاني؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة »[5]. وقوله صلى الله عليه وسلم :« لا يدخل النار من بكى من خشية الله»[6] وقوله كذلك : « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»[7] .

أقوال العلماء في الخوف:

– محمد بن عبد الجبار النفري ” الوجل والفزع والهلع والخشية والهيبة والإشفاق والحزن وما يجري مجراها: أسماء للخوف على حكم ما تتخصص به معانيه التي يتعلق بها، وإنما يرق الخوف في معرفة من المعارف فيسمى خشية مما يشبه أسماء الرقة، ويجفو الخوف في معرفة من المعارف فيسمى خوفا روعا هلعا أو غير ذلك مما يشبه أسماء الخوف”[8]

– الحارث المحاسبي : ” الخوف هو انكسار في الباطن يكسر الظاهر عن الانبساط، وأوله قلق وثانيه كمد” [9].

– أبو علي الدقاق: الخوف على ثلاث مراتب : فالخوف من شرط الإيمان قال تعالى: ﴿ وخافون إن كنت مؤمنين﴾ (آل عمران 175)، والخشية من شرط العلم قال تعالى: ﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ (فاطر 28)، والهيبة من شرط المعرفة قال تعالى: ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ (آل عمران 28) [10].

– الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني : الخوف على قسمين : خوف العوام وخوف الخواص؛ خوف العوام من العقاب والعذاب، وخوف الخواص من القطيعة والحجاب[11] .

– أبو القاسم الحكيم : “من خاف من شيء هرب منه، ومن خاف من الله عز وجل هرب إليه” [12]

– الحسين بن منصور: “من خاف من شيء سوى الله عز وجل أو رجا سواه أغلق عليه أبواب كل شيء، وسلط عليه المخافة، وحجبه بسبعين حجابا أيسرها الشك، وإن مما أوجب شدة خوفهم فكرهم في العواقب، وخشية تغير أحوالهم، قال تعالى :﴿ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ (الزمر 47)، وقال كذلك: ﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون إنهم يحسنون صنعا﴾ (الكهف 104) فكم من مغبوط في أحواله انعكست عليه الحال ومني بمقارنة قبيح الأفعال فبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة “.[13]

– الإمام أبو حامد الغزالي: “الخوف من المعصية خوف الصالحين، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى”[14].

– أبو علي الدقاق : ” دخلت على الإمام أبي بكر بن فورك عائدا فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له :إن شاء الله يعافيك ويشفيك . فقال لي: تراني خائف من الموت ؟ إنما أخاف مما وراء الموت !! “[15].

– الشيخ إبراهيم القرميسيني : الخوف إذا سكن القلب أحرق الشهوات فيه، وطرد عنه رغبة الدنيا وبعد عنها [16].

– الحارث المحاسبي: “التخويف ينال بالفكر في المعاد، والفكر ينال بالذكر، والذكر بالتيقظ من الغفلة … وقد يخطر الله عز وجل بقلب العبد المؤمن من غير تكلف، إذا أراد أن يتفضل عليه بذلك وإن لم يخطر بباله لم يكن العبد عنده معذورا بتركه التكلف للتخويف، كما أمره أن يخوف نفسه، لأنه أمره بالفكرة في المعاد”[17].

[1] البقرة:38

[2] آل عمران، الآية 175

[3] المائدة:94

[4] الإسراء :57

[5] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة، باب 18، 4/633 رقم الحديث 2450

[6] أخرجه الترمذي في سننه، 4/171 رقم 1633

[7] رواه البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : ( لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُم ) رقم ( 4621 ) ، ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب توقيره صلى الله عليه وسلم . . . ، رقم ( 2359 ).

[8] نصوص صوفية غير منشورة لشفيق البلخي –ابن عطاء الادامي –النفري تحقيق بولس نويا اليسوعي ص: 282

[9] حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب للشيخ عماد الدين الأموي (بهامش كتاب قوت القلوب لإبي طالب المكي ج 2 ص 197

[10] الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري الطبعة 1 ، 2008م ، شركة القدس للتجارة القاهرة ص 415.

[11] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لأحمد بن عجيبة الحسني ج 2ص: 281

[12] نفسه ص416

[13] نفسه ص 420

[14] إحياء علوم الدين للأمام الغزالي، ج 4/ 150

[15] نفسه ص 318

[16] لوامع أنوار القلوب وجوامع أسرار المحب والمحبوب للقاضي عزيزي بن عبد الملك ص78

[17] أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبي لعبد الحليم محمود ص:125

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية:

” الوقت”

الوقت في اللغة مقدار من الزمان، وكل ما قدرت له غاية أو حينا فهو مُوقَّتٌ[1] .

وقد وردت مادة الزمان في القرآن الكريم جامعة بين معاني دقيقة وأساليب واضحة، وبين دلالات علمية وتعابير أدبية فلا يمكن البتة الفصل بينها. فالزمان يسري في جميع سور القرآن وآياته وحروفه، تتذوقه أبسط العقول فهما، وما ذلك إلا لوجود انسجام بين القرآن باعتباره كتابا مسطورا والكون باعتباره كتابا منظورا، فهما من تأليف مؤلف واحد هو الخالق عز وجل.

فحينما تستمع إلى قول الحق سبحانه: ﴿والليل إذا يسر﴾[2]، تحس وكأن الليل كائن حي يسري ويجول في هذا الكون الفسيح، أو كأنه مسافر يجوب الصحاري والبحار. و يأتي الليل ومعه النهار في القرآن الكريم مصحوبين بصورة فنية غاية في الجمال يقول سبحانه:﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله﴾[3]. فقد جيء في هذه الآية بالضدين الليل والنهار في مقابل ضدين آخرين وهما السكون والحركة.

أما ليل النبي صلي الله عليه وسلم ونهاره فقد كان يقضيهما في طاعة الله عز وجل، روي عنه أنه يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول له أمنا عائشة: « لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟» فيقول: «أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً»[4]، ومما يروى عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى منزله جزّأ وقته إلى ثلاثة أجزاء، جزءاً لربه، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جُزأه بينه وبين الناس.

وعلى هذا المنوال سار علماء هذه الأمة وخاصة منهم أرباب القلوب من الصوفية الذين كانوا يحرصون كل الحرص على الاشتغال بكل ما يرضي الله عز وجل وعنهم أثر: “الوقت كالسيف فمن لاينه سلم، ومن خاشنه قُصم ” وملاينته كما قال الشيخ بن عجيبة تكون بالقيام بآدابه، فوقت القهرية آدابه الرضا والتسليم تحت مجاري الأقدار، ووقت النعمة آدابه الشكر، ووقت الطاعة آدابه شهود المنة من الله، ووقت المعصية آدابه التوبة الإنابة”[5] .

كما أنشد أحد الصوفية قائلا:

وكالسيف إن لاينته لان مسه *** وحداه إن خاشنته خشنان[6]

كما للوقت عندهم دلالات متعددة، فتارة يقصدون به الحال الذي يكون عليه العبد؛ يقول أبو علي الدقاق: ” الوقت ما أنت عليه في الحال، فإن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن “[7]، وتارة يرد بمعنى “ما يصادف العبد من تصريف الحق له دون ما يختاره لنفسه”[8]. وخير الأوقات وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد إلى وجود ذلتك كما قال ابن عطاء الله السكندري.

وللوقت عند القوم حقوق يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه: “حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يرد إلا ولله عليك فيه حق جديد وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره وأنت لم تقض حق الله فيه!؟

ومن بين الآثار الواردة كذلك في حقوق الأوقات قولهم: ” اجعل لكل وقت شغلا وعملا ينفعك، وإلا فقد يشغلك بما لا ينفعك”.‏

أما قولهم: “الصوفي ابن وقته”؛ فالمراد به أنه ” مشتغل بما هو أولى به من العبادات في الحال، قائم بما هو مطلوب منه في الحين “[9]، ولن يتحقق المريد بهذا المعنى حتى يدور مع الوقت كيف ما كان، فلا ينظر إلى ما مضى ولا إلى ما يستقبل، لأن نظره إلى الماضي والمستقبل يضيع عليه الوقت، وربما ضيع أوقاتاً كثيرة.

[1] كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي تحقيق عبد الحميد هندواي، دار الكتب العلمية- بيروت ج 4 ، ص 389

[2] سورة الفجر الآية 4

[3] سورة القصص الآية 73.

[4] صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن ، “باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته” رقم4460

[5] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، لأحمد بن عجيبة تحقيق عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي الدار البيضاء، ط 1 ، 2004، ص 48

[6] الرسالة القشيرية ص: 301

[7] معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 48

[8] ورد هذا التعريف عند الإمام القشيري في رسالته ص: 300.

[9] الرسالة القشيرية ص300.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية:

“الحياء”

الحياء: خلق نبيل، وزينة النفس البشرية، ورافد من روافد التقوى، لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل، ويصونه عن مقارفة كل قبيح، وهو من أجمع شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء[1] من الجفاء، والجفاء في النار) .[2]

وقد حثّ الإسلام على أدب وخلق الحياء في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق﴾،[3] وقوله تعالى: ﴿فجاءته إحداهما تمشي على استحياء﴾.[4]

وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتهر به، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها).[5]

وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على هذه السجية، فلا عجب إذاً أن يصبح الحياء الوصية المتعارف عليها، والبقية الباقية من كلام النبوة، والتي يُبلِّغها كل نبي لأمته.

ويلاحظ المتتبع لسيرة الرسول الكريم عليه السلام وأخلاقه، تجسيده للحياء في سلوكيات عملية، تُدرِّب المرء على هذا الخلق الرفيع.

فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).[6]

فأول مظاهر حيائه صلى الله عليه وسلم يتجلى في جانب خالقه سبحانه وتعالى، إذ الحياء الحقيقي الذي يريده الله عز وجل هو حفظ الجوارح -الرأس واللسان والسمع والبصر والشم والذوق- عن المحرمات، وتجنب جميع المعاصي الظاهرة منها والباطنة، ولن يتم ذلك إلا باستشعار مراقبته واطلاعه جل وعلا، ومن أجل هذا جاء اقتران الحياء بالإيمان في غير ما موضع من النصوص الشرعية.

قال الراغب الأصفهاني: “حق الإنسان إذا همّ بقبيح أن يتصور أجل ما في نفسه (حتى كأنه يراه، فالإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه)، ولذلك لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال، ولا من الذين لا يميِّزون، ويستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل، ومن الجماعة أكثر مما يستحي من الواحد. والذين يستحي منهم الإنسان ثلاثة:

البشر: وهم أكثر من يستحي منه، ثم نفسه، ثم الله عز وجل، ومن استحيا من الناس ولم يستح من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره، ومن استحيا منهما ولم يستح من الله فلعدم معرفته بالله عز وجل، فإن الإنسان يستحي ممن يعظمه ويعلم أنه يراه أو يسمع نجواه فيبكته، ومن لا يعرف الله، فكيف يستعظمه، وكيف يعلم أنه مطّلع عليه…قال تعالى (ألم يعلم بأن الله يرى)[7] “.[8]

ولما كان أساس مقام الإحسان-التصوف- استحضار العبد المؤمن لمراقبة الحق جل وعلا، فقد تميّز حياء أهل الخصوص بالتعظيم والهيبة والخشية والمحبة وإخلاص العبودية لله عز وجل، فإن الحق تعالى مطّلع عليهم وحاضر معهم، فالحياء عندهم ليس مجرد احمرار الوجه وتنكيس الرأس، بل هو معاملة صادقة وإخلاص تام في حق الخالق والمخلوق والنفس.

وذهب الجنيد إلى أن الحياء حالة تتولّد بين موقفين للإنسان المسلم التقي:

* الأول: رؤية الآلاء، أي نعم الله عز وجل التي أسبغها على الإنسان ظاهرا وباطنا.

* والآخر: رؤية التقصير، أي شعور المرء بأنه لا يستطيع أن يوفي هذه النعم حقها من الشكر، كما ينبغي أن يكون.[9]

وهذا ما عبّر عنه بقوله عندما سئل عن الحياء: “رؤية الآلاء ورؤية التقصير، فيتولّد بينهما حالة تسمى الحياء”.[10]

ذلك الحياء الذي يقوّي الإيمان، ويمحو الذنوب، ويصل بالإنسان إلى مقام الإحسان، ويقيه من الوقوع في المهلكات، بوازع ذاتي وضمير حيادي، يأخذ بيد الإنسان إلى طريق الخير.

الهوامش

[1] – البذاء: الفاحش من القول . جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي (ت711هـ): لسان العرب، حققه وعلق عليه ووضع حواشيه: عامر أحمد حيدر، راجعه: عبد المنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 2، 2009م، (مادة بذأ).

[2] – الترمذي: السنن، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الحياء، رقم 2009.

[3] – سورة الأحزاب، آية 53.

[4] – سورة القصص، آية 25.

[5] – البخاري: الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم 3562.

[6] – الترمذي: السنن، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم 2458.

[7] – سورة العلق، آية 14.

[8] – أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني(ت502هـ): الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق ودراسة: أبو اليزيد أبو زيد العجمي، دار السلام، مصر، ط1، 1428هـ/2007م، ص: 208.

[9] – أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي(631-676هـ): رياض الصالحين، دار الريان للتراث، د.ط، د.ت، ص:210. (بتصرف).

[10] – سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص:111.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سلسلة في رحاب أخلاق ومصطلحات السادة الصوفية “التواضع”:

من أحسن أخلاق الصوفية التواضع، ولا يلبس العبد لبسة أفضل من التواضع، ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة، يقيم نفسه عند كل أحد مقدارا يعلم أنه يُقيمه، ويُقيم كل أحد على ما عنده من نفسه، ومن رُزق هذا فقد استراح وأراح، وما يعقلها إلا العالمون.[1]

إنه خلق حميد، وجوهر لطيف، ومن أخص خصال المؤمنين المتقين، ومن كريم سجايا العاملين الصادقين، ومن شيم الصالحين المخبتين…

هو هدوء وسكينة ووقار واتزان، يتولد من قلب عالم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله…

هو انكسار القلب لله جل وعلا، وخفض الجناح والذل والرحمة للعباد…

من أعظم ما يتخلّق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأُسّها، بل ما من خلق في الإسلام، إلا وللتواضع منه نصيب…

هو سبب الرفعة في الدنيا والآخرة، ومن شيم المساكين، فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن المسكنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)،[2]فأجاب: “فالمسكين المحمود هو المتواضع، الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال، بل قد يكون الرجل فقيرا من المال وهو جبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ. وملِك كذاب. وعائل مستكبر)[3]…فالمسكنة خُلق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللين ضد الكبر، كم قال عيسى عليه السلام (وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا)[4]”.

إنه خلق الأنبياء والمرسلين، وشيمة النبلاء والصالحين، وزينة الفضلاء والعارفين، تواضعوا للحق والخلق، عرفوا الحق فاتبعوه، والباطل فاجتنبوه.

ولا يكفي في التواضع العمل الظاهر، بل يجب أن يرافقه ويوافقه عمل الباطن، بتذلل القلب لله عز وجل والانكسار على أعتابه، “فإن وافقه القصد الخفي في النفس، بأن كان الحذر من انخداع الناس بظاهر استقامته وصلاحه، فذلك هو التواضع الحقيقي الذي يفسّره التذلل بين يدي الله وإظهار الفاقة له، وإنكار أي قيمة أو مكانة للنفس”.[5]

فالمسلم يتواضع من غير مذلة ولا مهانة، فهو يعلم أن ذلك خلق أوجبه الله عليه، ولا يزيده به إلا رفعةً وسمواً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).[6]

وروى البيهقي في الشعب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: (أيها الناس تواضعوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبّر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير).[7]

وحتى لا يسقط المسلم في مهالك الكبر، فعليه بالتواضع الذي اتصف به سيّد المتواضعين عليه السلام، فإن تواضعه صلى الله عليه وسلم كان روحه الإخلاص لله تعالى، والحنوّ على عباد الله، والرأفة والرحمة بالمؤمنين، وعليه كان من الواجب على المؤمن السالك لطريق الحق تعالى الاتصاف بخلقه صلى الله عليه وسلم، فيخضع لأمر الله، ويتواضع لعباد الله، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير، وينصح لهم في كل حالة من أحوالهم.

التواضع اعتراف بحق الله وحق عباده، وحقيقته: “أن يتواضع العبد لصولة الحق. يعني: أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل، والانقياد، والدخول تحت رقه، بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع”.

ويكون مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع الخلق أجمعين، فالمسلم يتواضع مع الله عز وجل بأن يتقبّل دينه، ويخضع له سبحانه، ولا يجادل ولا يعترض على أوامر الله برأيه أو هواه، ويتواضع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتمسّك بسنته وهديه، فيقتدي به في أدب وطاعة، ودون مخالفة لأوامره ونواهيه، والمسلم يتواضع مع الخلق بألا يتكبّر عليهم، وأن يعرف حقوقهم، ويؤديها إليهم مهما كانت درجتهم، وأن يعود إلى الحق، ويرضى به، مهما كان مصدره.

وما بلغ الأنبياء والمرسلون والعارفون والصالحون المنازل العالية والأخلاق السامية إلا بالانقياد للحق، وتعظيم حقوق الخلق، فمن قبِل الحق وانقاد له، ولم يحقّر أحداً، وتواضع لعباد الله، فهذا هو المتواضع للحق والخلق، وهو القائم بحقوق الله وحقوق الخلق.

وقد سئل الجنيد عن التواضع، فقال: “خفض الجناح للخلق، ولين الجانب لهم”.[8]

وقال أبو حفص: “من أحبّ أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدى بهم ولا يتكبّر… وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم، أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر”.[9]

وإذ تبينت أهمية التواضع في طريق السير إلى الله تعالى، ومعناه الحقيقي ذي الأنواع الثلاثة: تواضع مع الله عز وجل، وتواضع مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع الخلق أجمعين، كان لزاما على المؤمن المجاهدة لتحقيق هذا الخلق، لأن الله سبحانه وتعالى يحب العبد المتواضع له، والشرف العظيم يُنال بالخضوع لله والتواضع للمسلمين، ولين الجانب لهم، واحتمال الأذى منهم، والصبر عليهم.

الهوامش

[1] – السهروردي: عوارف المعارف، 1/259.

[2] – الترمذي: السنن، كتاب الزهد، رقم 2352.

[3] – النووي: شرح صحيح مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف. وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رقم173.

[4] – سورة مريم، آية 32.

[5]- محمد سعيد رمضان البوطي: شرح وتحليل الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري، دار الفكر، دمشق، ط4، 1430هـ/2009م، 4/291.

[6]- الترمذي: السنن، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التواضع ، رقم 2029.

[7]- البيهقي: شعب الإيمان، باب في حسن الخلق، فصل في التواضع ، رقم 8140.

[8] – سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 218.

[9] – السهروردي: عوارف المعارف، 1/260-261.

إترك تعليق

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم نشرة . حقل مطلوب *

*